ابتزّوا الأغنياء والفقراء سنوات طويلة البلطجية حكموا مقاهي القاهرة وحاراتها

نشر في 30-09-2007 | 00:00
آخر تحديث 30-09-2007 | 00:00

الجريمة خلقها البشر. وجدت مذ خلق الله آدم أبو البشر جميعا. هي سلوك عدواني يلحق ضررا بالفرد والمجتمع. لم تنجح أي وسيلة في أي زمان أو مكان لمنع وقوع الجرائم. إنها جزء لايتجزأ من السلوك الإنساني وأحد مكونات الحياة في أي مجتمع، أياً تكن ثقافته أو مستواه الحضاري.

رغم التقدم التقني الذي شهده العالم في مجال اكتشاف الجرائم ومكافحتها فإن المجرمين يقومون في خط مواز بتطوير أساليب جرائمهم في محاولة لتضليل السلطات عن مطاردتهم وإنزال العقاب بهم.

بخلاف ما يسمى «المجرم بالصدفة» الذى يرتكب نوعا من الجرائم من دون إعداد أو تخطيط مسبق، ثمة المجرمون العتاة الذين يتميزون بتركيبة إجرامية ذات سمات خاصة وتفشل كل الطرق فى إصلاحهم وتهذيبهم كما تفشل كل أنواع العقاب، مهما بلغت قسوتها، في ردعهم.

عالم الجريمة مثير لما ينطوي عليه من رعب وتشويق. وإن كان عالماً صغيراً، إلا أنه يعكس الحياة البشرية بأكملها إذ يمثل حالة الصراع الدائم بين الخير والشر، بين العدل والظلم، بين القوة والضعف، بين الفضيلة والرزيلة.

نقدم هذا العالم الغريب في حلقات متتالية، من مصر بلد التاريخ والحضارات المختلفة، بلد الجوامع والكنائس، بلد الهرم والنيل، لكن أيضا بلد «الخط» وريا وسكينة والتوربيني.

عرفت القاهرة «البلطجة» منذ زمن بعيد فكان لكل حيّ من الأحياء ما يسمى بـ «الفتوة»، لكنه لم يكن بالصورة المثالية التي عرضها الأديب الراحل نجيب محفوظ في رواية «الحرافيش» وفي الكثير من رواياته الأخرى. نشأت ظاهرة «البلطجة» وازدهرت، ذلك أن البلطجي وجد في الأصل ليكون حامياً لـ{فتاة الهوى»، يدافع عنها ويساعدها في الحصول على حقوقها (المزعومة) مقابل مبلغ يتفق عليه، أي أنه كان «ديوثا» يتاجر بقوة جسده في أحط مجال، في أحقر سوق.

من الأسماء التي برزت واشتهرت في هذا المجال في أوائل القرن العشرين إبراهيم عطية «فتوة الحسينية» وخليفته مصطفى عرابي وعبده الجباس «فتوة عابدين» ورزق الحشاش في منطقة الدرب الأحمر وسواهم كثر في أحياء وحارات متفرقة في القاهرة منهم : الفيشاوي (الذي ينسب إليه مقهى الفيشاوي المشهور في حي الحسين) والأسيوطي وبيومي الشرقاوي. من النساء اشتهرت «الزفتاوية» و{المغربية» و{عزيزة الفحلة». من الأجانب في حارة اليهود برزت أسماء: جداليا وبالميطو ولولى.

كان أكثر هؤلاء يديرون مقاهي مشهورة في القاهرة فارضين «إتاوات» (غرامات) على أهل الحي حيث يعيشون. يذكر أن مصطفى عرابي كان يدير مقهى في شارع الظاهر يجلس فيه الأعيان وأهل الوجاهة، ثم نقله إلى شارع فاروق ( شارع الجيش حاليا). أما عبده الجباس فكان يفرض «إتاواته» على سكان منطقة عابدين وحارة السقايين من بينهم أحد الباشاوات الذي كان يدفع له جنيهين اثنين شهرياً كإتاوة.

كانت المعارك تدور في ثلاثينات القرن بين من كانوا يسمون «البشاكرة» وهم مساعدو الجزارين وبين الجزارين أنفسهم في حي السلخانة قرب ميدان السيدة زينب، إلى جانب معارك فردية بين فتوات الحسينية وبعض الأحياء. كانت كل من عزبة الصفيح في العباسية وعزبة البراك في شبرا وعش الترجمان في بولاق والترعة البولاقية في شبرا والخليفة وزين العابدين في السيدة زينب من أهم معاقل هؤلاء البلطجيّة.

البرمجي والبلطجي !

كانت منطقة الأزبكية في بداية القرن عبارة عن سلسلة من الأندية ومجالس الأنس والحانات والمراقص وقاعات القمار، إلى أماكن الدعارة التي تركزت في منطقة الوسعة وحاراتها. كان لكل منطقة في الحي مقاهيها وزبائنها. من أشهر حانات ذاك الزمن، «كافيه إجيبسيان» و{دراكاتوس» و{الإلدرالدو»، إلى العشرات من البارات الصغيرة.

فؤاد الشامي

خلال الربع الأول من القرن العشرين، إنتقلت ملاهي الأزبكية إلى شوارع عماد الدين والألفي بك وفؤاد وانتشرت البارات والصالات والمراقص فيها، إلى انتشارها في مناطق التوفيقية والإسماعيلية (ميدان التحرير حاليا). مع مرور الوقت تخلى البرمجية الأجانب عن إدارة صالات الرقص والبارات والمقاهي وحل مكانهم البرمجية المصريون. أصبح لكل محل بلطجي لحمايته ولتأديب الزبائن الذين يرفضون دفع ما تتناوله السيدات من مشروبات.

وصل عدد الحانات في القاهرة عام 1924 إلى 1136 (أكثر من محلات البقالة). في هذا الجو المشبع بصالات الرقص والمقاهي وشقق المقامرة والمواخير، ظهر البلطجية الذين يفرضون «الإتاوات» على أصحاب هذه الأنشطة، في مقابل حمايتهم، مهددين بأذية من يعترض طلبهم.

خصص هؤلاء «البلطجية» الراقصات بالقدر الأكبر من طلباتهم باعتبارهنّ أول فئة في المجتمع عرضة للإيذاء والأسرع في الاستجابة للدفع، لعلمهن بخطر التهديد بالإيذاء وفي مقدّمه تشويه الوجه بماء النار.

نجح هؤلاء «البلطجية» في توثيق علاقتهم بصغار ضباط الشرطة وخاصة ضباط قسم الأزبكية الذي كان يدار في ثلاثينات القرن الفائت من الحانات والصالات التي اتخذها البلطجية مقرات لهم، حيث يحتسون المحرّم مجاناً ويأخذون «الإتاوات» من الراقصات. كانت عصابة فؤاد الشامي وشقيقه مختار أشهر عصابة من البلطجيّة في تلك الفترة.

مقتل إمتثال فوزي

كانت إمتثال فوزي من الراقصات اللواتي حققن شهرة كبيرة في القاهرة في ذلك الزمن بفضل مهارتها في الرقص والغناء. تتلمذت على يد بديعة مصابني، ثم تركت العمل معها وشاركت زميلة لها تدعى ماري منصور في صالة في شارع عماد الدين وحققت نجاحاً كبيراً، كما حققت ثراء كبيراً. كذلك اشتركت معها في إدارة كازينو البوسفور في منطقة الأزبكية وكان في حقيقته صالة رقص ضمن إطار نفوذ كبير بلطجية عماد الدين وقتذاك فؤاد الشامي وشقيقه مختار.

إفتتحت امتثال صالتها الجديدة في 2 مايو/أيار 1936، فاتصل بها فؤاد الشامي عارضا خدماته لحمايتها. رفضت وأمرت في أكثر من مناسبة بطرد البلطجي وأعوانه من الصالة، إذ كانت تراهم يحتسون المحرّم بلا مقابل. لجأت إلى قسم الأزبكية الذي لم يكن يبعد عن صالتها أكثر من 500 متر. هناك قال لها الضباط المرتشون إن دورهم ليس حماية الناس من التهديد إنما ضبط الجناة بعد حدوث الواقعة.

تعرضت للضرب ليلة 15 أيارفقصدت قسم الأزبكية ثانية وحررت المحضر رقم 1870 لعام 1936 جنح الأزبكية، لكن ضباط القسم المرتشون أخلوا سبيل الشامي وعصابته من دون عرضه على النيابة، فاتصل بها أعضاء العصابة يوم 22 من الشهر نفسه وهددوها بالقتل إن لم تدفع الإتاوة. اتجهت مرة ثالثة إلى قسم الأزبكية، وأبلغت بواقعة التهديد، لكن الضابط المختص صرفها من القسم. بعد ساعتين من عودتها وأثناء ذهابها الى صالتها للإشراف على العمل اعتدى أحد أفراد عصابة الشامي عليها بزجاجة مكسورة، استقرت في رقبتها فسقطت صريعة.

أثبتت التحقيقات أن فؤاد الشامي كان يتزعم عصابة تخصصت في فرض الإتاوات على أصحاب الصالات والراقصات والمومسات وتضم شقيقه مختار الشامي، المتهم فى جنايتين وجنح أخرى. أحيل أعضاء العصابة على المحاكمة وحكم على فؤاد الشامي ورجل عصابته الذى قتل امتثال بالأشغال الشاقة المؤبدة.

تناولت جريدة الأهرام هذه القضية على النحو الآتي:

- راقصة تذبح في ملهى عام لرفضها دفع الإتاوة للفتوات (عدد 23/5/1936)

- جريمة البوسفور الوحشية (عدد 24/5/1936)

- عصابات عماد الدين تنافس عصابات شيكاغو ( 1/6/1936)

قدمت السينما المصرية هذه القصة في فيلم عنوانه «امتثال» بطولة الفنانة ماجدة الخطيب، إخراج حسن الإمام.

أدهـم الشرقاوي

خلال الفترة الزمنية الراهنة ظهر بلطجي آخر في محافظة البحيرة في أقصى الشمال الغربي لدلتا مصر، كان قاطع طريق محترفاً وزعيم عصابة متخصصة في سرقة المواشي وابتزاز الأغنياء. روّع المنطقة عدة سنوات حتى تمكن البوليس المصري من قتله.

ولد أدهم الشرقاوي في قرية زبيدة مركز إيتاي البارود في محافظة البحيرة. إختلفت المصادر حول عام ولادته. في حين أورد البعض أنه ولد عام 1896 أكد البعض الآخر أنه ولد عام 1899. ترك المدرسة بعد نيله الشهادة الابتدائية. كان طويل القامة مفتول العضلات يتمتّع بجسد رياضي فاستغل طاقات جسده في عمليات السرقة وكوّن مع عدد من زملائه عصابة لسرقة المواشي وقطع الطرقات.

كان يطلق مصطلح «قاطع طريق» في مصر على البلطجي الذي يكمن في الليل على أحد الطرقات ويعترض المارة مهددا إياهم بالسلاح إن لم يتركوا ما في حوزتهم من مال ومتاع ويستولي أحياناً على ملابس ضحيته وحذائها. انتشرت هذه الظاهرة في مصر عدة قرون حين كانت الطرق موحشة لا ضوء فيها ولا عمران.

شكل أدهم مع عصابته مصدراً لترويع سكان المنطقة خلال تلك الفترة. كان يبتزّ الأغنياء. يأخذ منهم مبالغ نقدية ومحاصيل زراعية ومواشي مقابل توفير الحماية لهم. كان الضحايا يدفعون له ما يريد صاغرين إتقاء لشره. قبض عليه متلبساً وهو يحاول سرقة مواشٍ ( أبقار وجاموس) فقدم إلى المحكمة التي قضت بسجنه ثلاث سنوات. ثم رُحّل إلى القاهرة ليمضي عقوبة السجن في ليمان طره.

زاره والده ذات مرّة في السجن وأخبره بأن عمه قتل وأن من قتله حكم عليه بالسجن وهو وموجود معه في الليمان نفسه واسمه عبد الرؤوف. حرضه والده على قتله والثأر لعمه لأن الحكم الصادر في حقه لم يكن عقوبة الإعدام.

أثناء خروج المساجين لمباشرة الأشغال الشاقة في جبل طره، وهي عبارة عن تكسير حجارة الجبل في ظروف قاسية تحت أشعة الشمس الحارقة كنوع من العقاب القاسي، وفي ظلّ حراسة يقظة، استطاع أدهم التعرّف إلى عبد الرؤوف هذا وقتله بالأداة التي يستخدمها في تكسير الحجارة.

عقب ذلك حكم عليه بالأشغال الشاقة المؤبدة. كان ذلك عام 1918. ما هي إلا شهور حتى اندلعت ثورة 1919 الشعبية في مصر فسادت الفوضى في كل مكان واقتحمت سجون كثيرة وسرّح المساجين فيها. كان أدهم الشرقاوي من المساجين الذين تمكّنوا من الفرار فأعاد تشكيل عصابته بعدما أصبح مجرماً من أصحاب السوابق وتمادى في أجرامه وسرقاته التي نشرت الرعب بين سكان المنطقة.

الحدث الذي جعل من الشرقاوي بطلاً تعطيله قطاراً إنكليزياً قادماً من الإسكندرية ومتجهاً إلى القاهرة. كان محملاً ببضائع وذخائر وأسلحة كانت السفن البريطانيّة أفرغتها في ميناء الإسكندرية. أعدّ أدهم خطّة السطو عليه والاستيلاء على جزء من حمولته. نجح مع أصدقائه في فك أحد قضبان السكة الحديد ما أدى إلى توقف القطار وتعطله، عندئذ اقتحم أدهم القطار مع عصابته مستولياً على كل ما يمكن أن ينتفع به من حمولته وعلى كمية ضخمة من الأسلحة والذخائر تزيد كثيراً على حاجته فعمد إلى إلقائها على مشارف القرية. شاع الخبر في الأوساط المصريّة وقيل أنه استولى على هذه الأسلحة لتوزيعها على الفلاحين من أجل مقاومة المحتل الإنكليزي. بعد ذلك زادت سطوة أدهم في شكل مخيف. كان يقتحم قصور الأغنياء نهاراً ويطلب منهم مالاً ومتاعاً تحت تهديد السلاح. سطا أيضاً على محلج إيتاي البارود واستولى على ما في خزانته من أموال كانت معدة لصرف مرتبات العاملين ومارس أنواع البلطجة على المواطنين الأبرياء.

إزاء خطره المتنامي اهتمت وزارة الداخلية بضرورة القبض عليه وتصفيته. بما أنه يعيش في الخلاء ويسكن في الزراعات والخرائب كان صعباً تحديد مكانه بسهولة في ضوء الإمكانات المحدودة المتاحة في تلك الفترة. استعانت الداخلية بأحد قطاع الطرق السابقين الذي قام باستدراجه إلى منطقة آهلة بالسكان، فانقضت قوات البوليس المصري عليه من كل ناحية وتمكنت من قتله. كان ذلك في 12 ديسمبر عام.

كيف أصبح بطلاً؟

رغم هذه السيرة الإجرامية لواحد من عتاة المجرمين في مصر، أصبح أدهم الشرقاوي بطلا شعبياً. تغنى كثر بسيرته. قدّم الفنان الشعبي الراحل محمد رشدي ملحمة غنائية فولكلورية عن ذاك الأدهم بدءاً بالمقطع المشهور: «الإسم أدهم لكن اللقب شرقاوي. مواله أهل البلد جيل بعد جيل يتلوه». وقدمت السينما المصرية واحداً من أجمل أفلامها يحمل اسمه وسيرته الزائفة بطولة النجم الراحل عبد الله غيث، غناء أسطورة الغناء الراحل عبد الحليم حافظ. ثم قدمه التلفزيون المصري في مسلسل من بطولة الفنان عزت العلايلي عام 1986.

من الذي جعل من هذا المجرم بطلا شعبيا تتناقل الأجيال بطولاته التي لا أساس لها من الصحّة؟ من الذي ابتدع هذه القصص البطولية الرائعة المحبوكة عنه خاصة شخصية بدران التي اقترن أدهم بها وهو الصديق الخائن الذي باعه إلى الإنكليز فقتلوه، رغم أن الذي قتله هو البوليس المصري. لا شخص في قصته من أوّلها إلى آخرها اسمه بدران؟

يرى البعض سببين وراء ذلك: أولها أن أحد رجال أسرة الشرقاوي، المستشار فتحي الشرقاوي، الذي تولى وزارة العدل في 8 أكتوبر عام 1961 حتى 25 مارس 1964 هو الذي استغل نفوذه في ترويج قصة اللص وقاطع الطريق على شكل بطل مستنداً إلى واقعة القطار الإنكليزي الذي تسبب بتعطيله، رغم أن أدهم عطله لسرقته كلص وقاطع طريق لا كعمل بطولي في مجال مقاومة المحتل. أما السبب الآخر فتعطش الشعب المصري إلى البطل الأسطوري الذي يحلمون به يومياً خاصة حين يزيد الظلم. يتخيل الناس سيرة بطل فعل كذا وكذا فيتحول الخيال إلى حلم جميل ثم ينقلب الحلم إلى ما يشبه الحقيقة. فتروّج القصة مثل مئات القصص التي راجت في الفولكلور الشعبي في سائر الدول.

ظل أبناء مصر يتغنون عدة قرون بسيرة أبو زيد الهلالي سلامة، كما تغنى اليمنيون بسيف ابن ذي يزن وأهل الحجاز بعنترة العبسي. كان الشوق إلى بطل شعبي يتعامل بمعطيات الحاضر من بنادق وسيارات وقنابل السبب الرئيسي في نمو سيرة المجرم اللص قاطع الطريق الذي أصبح بطلا خارقاً، رغم أن غالبية مصر تعرف حقيقته ووقائع جرائمه ونهايته المعروضة في متحف الشرطة المصرية في قلعة صلاح الدين في القاهرة لمن يريد أن يتأكد.

back to top