ما الصحيح؟
جموح أخيلة المراقبين والمحللين الذين ذهب بهم بعيداً في تحليلاتهم وتخيلاتهم إلى حد أن بعضهم تحدث عن أن الطائرات الإسرائيلية لم تكتف بخرق الأجواء السورية بصورة استفزازية خطيرة، بل إنها قصفت قواعد صواريخ محملة برؤوس نووية وكيماوية... وهذا بالتأكيد غير صحيح.
وكأنها أحجية... فرغم مرور هذه الفترة كلها فإن قضية «تسلل» طائرات إسرائيلية عبر الأجواء السورية، ووصولها إلى مناطق بعيدة ونائية في شمال شرقي البلاد، لم تُعرف حقيقتها بعد، فالإسرائيليون صامتون وما يتسرب عن بعض أوساطهم الرسمية كلام مبهم لا يفهم منه أي شيء و «الأشقاء» السوريون ظهروا في ضوء كل ما قالوه لشعبهم وللعرب والعالم، وكأنهم يخفون شيئاً يتحاشون ويخافون كشف النقاب عنه. والأتراك بدورهم، الذين يقال إن هذا التسلل تم بمحاذاة حدودهم،لم يكشفوا النقاب عن أي حقيقة، وهم اكتفوا بتوجيه عتب إلى الإسرائيليين ومطالبتهم بإعطاء معلومات مقنعة عن هذا الأمر... ولماذا ألقت طائراتهم ببعض خزانات وقودها الفارغة في مناطق قريبة من خط الحدود السورية-التركية؟! فما الحقيقة؟ ولماذا هذا التكتم؟! إن هذا الكلام المبهم وغير الواضح الذي قالته الأطراف المعنية الثلاثة، سورية وتركيا وإسرائيل، عن هذا الأمر الذي هو خطير في كل الأحوال، ترك للمحللين والخبراء العسكريين أن يطلقوا الأعنة لاستنتاجاتهم، فبعضهم قال إن مهمة الطائرات الإسرائيلية المقاتلة كانت معرفة حجم رد الفعل السوري إزاء ما جرى، وآخرون قالوا إنها قصفت قواعد صاروخية كانت كوريا الشمالية قد زودت بها الدفاعات الجوية السورية، والبعض الآخر قال إن القصف استهدف أسلحة كانت في طريقها من إيران إلى «حزب الله» اللبناني... وهناك من قال إن كل ما في الأمر أن الإسرائيليين بعد الانطباع الذي تركته حرب الصيف الماضي قاموا بما قاموا به من قبيل إظهار قوتهم والبرهنة على أن ذراعهم لا تزال طويلة وأن قبضتهم لا تزال قوية. لا توجد أي رواية مقنعة بالنسبة لهذا العمل الذي شكل تحرشاً بسورية بغض النظر عن حقيقة ما حصل. وهنا فإن ما شجع إسرائيل على هذا الاستفزاز الصارخ هو أنهم كانوا قد قاموا بما هو أكثر تحدياً وخطورة من هذا التحرش الأخير كخرق حاجز الصوت فوق قصر الرئيس بشار الأسد في القرداحة ومهاجمة قاعدة فدائية فلسطينية في عين الصاحب، وكان الرد السوري مجرد الإعلان عن الحق في الرَّد في الزمان المناسب والمكان المناسب... لكن لم يحصل شيء من هذا القبيل على الإطلاق.حتى في الشكوى المتأخرة جداً التي تقدمت بها إلى الأمم المتحدة ومجلس الأمن الدولي فإن دمشق لم تكشف النقاب عن أي شيء يضع النقاط على الحروف ويضع حداً لجموح أخيلة المراقبين والمحللين الذين ذهبوا بعيداً في تحليلاتهم وتخيلاتهم وذلك إلى حد أن بعضهم تحدث عن أن الطائرات الإسرائيلية لم تكتف بخرق الأجواء السورية بصورة استفزازية خطيرة، بل إنها قصفت قواعد صواريخ محملة برؤوس نووية وكيمياوية... وهذا بالتأكيد غير صحيح، لكن الغموض الذي أحيط به هذا الحدث الجلل منذ البداية جعل الذين لم يقتنعوا بما قيل يصدقونه.فما الحقيقة يا ترى؟ وما الذي حصل؟! كان على «الأشقاء» السوريين أن يصارحوا شعبهم وأشقاءهم العرب والعالم بما حصل، مهما كانت حقيقته، فهذا الغموض جعل كل هؤلاء وخصوصاً الشعب السوري، يشعر أن قيادته تخفي عنه شيئاً لا تريده أن يعرفه. خصوصا أن مسيرة التاريخ قد علّمت هذا الشعب وغيره أن أحداثاً كثيرة مشابهة عندما تكشفت لاحقاً على حقيقتها ثبت أنها كانت أخطر من كل ما قيل... ومن بينها خطف الاستخبارات العسكرية الإسرائيلية لعدد من كبار الضباط السوريين من الجنوب اللبناني في سبعينيات القرن الماضي... فما الصحيح؟لا يـُخجل سورية ولا أي دولة من الدول أن تستطيع دولة كإسرائيل، تمتلك كل ما يمتلكه الأميركيون من تقنيات متطورة وربما أكثر، من اختراق أجوائها والوصول إلى أحد مواقعها الاستراتيجية فهذه هي الحرب... لذلك فإنه ما كان ضرورياً كل هذا الإبهام الذي أحيط به هذا الحدث الأخير. * كاتب وسياسي أردني