رأفة بـ الديموقراطية!!
الآن الأمور اختلفت وتشير استطلاعات الرأي العام المتلاحقة في الأردن إلى أن هذه الأساليب فقدت بريقها، وأن الديموقراطية التي كانت خلال مراحل غيابها حلماً وردياً جميلاً، لم تعد معبودة الجماهير، فقد تقدم عليها مطلب الأمن والاستقرار والتآخي الاجتماعي ولقمة العيش وتوفير فرص العمل لخريجي الجامعات والمعاهد العليا.
أسوأ ما يمكن أن يحصل بعد أن واصل البرلمان الكويتي «تحرشاته» بالحكومة!!، وهذا حق دستوري له لا يستطيع الاعتراض عليه لا مراقب من الخارج ولا متابع من الداخل، هو أن يصاب الرأي العام بالملل والسأم وأن يتحول من الاهتمام بكل صغيرة وكبيرة الى عدم الاكتراث وأن يضع كل هذا الذي يجري في دائرة العبثية، وهذا هو المقتل الفعلي للديموقراطيات الناشئة في العالم الثالث، كالديموقراطية الكويتية ونظيرتها الأردنية. في الأردن، الذي ديموقراطيته الحالية من عمر ديموقراطية الكويت تقريباً والذي مجتمعه قريب الشبه من المجتمع الكويتي، بدا الرأي العام معجباً بالمشاهد المسرحية التي جرت تحت قبة البرلمان، والتي وصلت الى حد الاشتباكات بالأيدي والى تبادل الرّجم بـ «منافض» السجائر، وأيضاً باستخدام الأسنان، حيث صَلَمَ نائب إذن زميل له بقضمةٍ ديموقراطية، لكنه مالبث أن تخلى عن هذا الإعجاب وبات ينظر الى هذه الأمور على أنها عبثية واستعراضية وتدل على عدم الجدية. لم يعد البرلمان الأردني يحظى بما كان يحظى به في بدايات تسعينيات القرن الماضي عندما كانت التجربة لاتزال طرية وعندما كان يثير إعجاب الناس أن يقف نائب ويشتم بطريقة مسرحية الحكومة أو أحد وزرائها أو يصب جام غضبه على زميل له ويتهمه إما بالرجعية أو بالكفر والإلحاد أو بـ «التطبيع مع العدو الصهيوني»!!... الآن الأمور اختلفت وتشير استطلاعات الرأي العام المتلاحقة الى أن هذه الأساليب فقدت بريقها وأن الديموقراطية، التي كانت خلال مراحل غيابها حلماً وردياً جميلاً، لم تعد معبودة الجماهير فقد تقدم عليها مطلب الأمن والاستقرار والتآخي الاجتماعي ولقمة العيش وتوفير فرص العمل لخريجي الجامعات والمعاهد العليا. من المفترض أن تجري الانتخابات البرلمانية (التشريعية) الأردنية خلال هذا الصيف ولذلك فإن المفترض أن حل البرلمان الحالي كان يجب أن يكون وفقاً للدستور في نهاية الشهر الماضي (يونيو)، لكن هذا لم يتم وجرى استخدام النصوص الدستورية النافذة لتأجيل استحقاق الحل حتى فترة لاحقة... وهنا فإن المؤسف أن كل هذا جرى من دون اكتراث الرأي العام، اللهم باستثناء الأحزاب التي تجاوز عددها الثلاثين حزباً والتي لم يتجاوز عدد منتسبيها وأعضائها الستة آلاف منتسباً وعضواً، وباستثناء بعض أوساط الشريحة المرتاحة والمترفة في عمان الغربية. لا نقاش في أنه من حق البرلمان أن يتحول حتى الى مسرح لاستعراض عضلات الألسنة ولهز القبضات في وجه الحكومة ووزرائها، ولكن ما يجب الانتباه إليه، بالنسبة لتجربة لاتزال طرية العود كما في الأردن والكويت... وأيضاً كما في العراق، هو أن يتحول الرأي العام من الجدية والاهتمام الى عدم الاكتراث، فملل وسأم الناس هو أخطر عدو للديموقراطيات الناشئة، ولعل الأخطر هو أن يواجه حلَّ البرلمان وتعليقه، كما حدث في الأردن في حكومة المهندس علي أبو الراغب، بالإهمال واللامبالاة من جانب الرأي العام !! هناك حديث نبوي شريف يقول: «إن المـُنْبتَّ لا أرضاً قطع ولا ظهراً أبقى»... والمنبتُّ هو المستعجل نافد الصبر الذي ينهال على راحلته رفساً وضرباً فيقتلها وتكون النتيجة أنه يفقد راحلته وفي الوقت نفسه لم يستطع الوصول الى المكان الذي أراد الوصول إليه... وهذا يجب أن يأخذه المستعجلون بعين الاعتبار فالديموقراطيات الغربية الكاملة الأوصاف لم تستكمل أوصافها بين عشية وضحاها وليس في عام أو عامين أو عشرة أعوام... إنها وصلت الى ما وصلت إليه خلال مسيرة تاريخية طويلة... ورأفة بـ «الديموقراطية»... ارْأفوا بـ «الديموقراطية»!! كاتب وسياسي أردني