Ad

كان من المتعذر علينا إدراك أن تأثيرات العولمة فينا ليست نسخاً متكررة في القطاعات كلها، وأن ما قد يحدث في العسكرية بسبب العولمة قد يختلف عما يحدث على الصعيد السياسي.

باتت معارضة العولمة وتسفيه مقاصدها سياسة وممارسة شبه دائمة في خطابنا الثقافي والسياسي والإعلامي العربي، حتى غدا الدفاع عن سياسات بوش في العراق أو إدارة أنظمتنا العربية لملف الحريات وحقوق الإنسان، أسهل بكثير من محاولة مقاربة ظاهرة العولمة وتأثيراتها بشكل موضوعي.

بدأ الهجوم منذ ترجمة المصطلح وولوجه الفضاء العربي، وحتى قبل أن ينعكس ممارسات في الواقع وعلى الأرض. ومن العجب أن ذلك الهجوم والانتقاد الحاد جاء أولاً من المثقفين والإعلاميين، قبل أن تحلل النظم العربية المصطلح وتقرأه وفقاً لانعكاساته على مصالحها، فإذا هي أشد ضراوة وقسوة في الهجوم من القطاعات الأخرى.

الآن تمثل العولمة إحدى نقاط التوافق النادر بين النظم، وقطاعات المثقفين والسياسيين في فصائل الموالاة والمعارضة، فضلاً عن التيارات الدينية، رغم التباين والتناقض الواسعين بين هذه الفرق جميعها وفيما بينها.

وبلغ الأمر مداه حتى أصبحت العولمة في مرتبة لا يضاهيها فيها سوى شخص من نوع شارون؛ إذ هي محل الاتفاق الشامل والتوافق النادر بين المشتتين والمتناقضين والمتقاتلين، بما تمثله لهؤلاء جميعاً من «محاولة غربية للهيمنة مستمرة»، و «مشروع أمركة سافر»، و «ذراع الرأسمالية والكولينيالية المتناسب مع خصوصية العصر».

وتعززت النزعات المعادية بما لاقاه المصطلح ذاته في العالم الثالث بقارات آسيا وأفريقيا وأميركا الجنوبية من اصطفاف واسع، انعكس في خطاب شبه مكرر في نقده ومقاومته، وتجسد سياسة رفض وإجراءات منظمة، عبر حركات وجمعيات وأحزاب ومجتمع مدني قُطري وإقليمي ودولي.

وكانت ذروة المسوغات والذرائع ما بدا من استهجان غير محدود في الغرب ذاته للظاهرة وتداعياتها؛ إذ انخرطت فعاليات غربية واسعة الأثر في أنشطة مستدامة لمحاربة العولمة بوسائل عدة، وهو الأمر الذي يروق للخطاب العربي استخدامه في مبحث «وشهد شاهد من أهلها».

وفي خضم ذلك الهجوم العارم، المؤيد بالذرائع عبر المحيطات والقارات، لم نُمنح نحن الفرصة الملائمة لدراسة الظاهرة وتحليل انعكاساتها وتأثيراتها في قطاعاتنا المختلفة، بما يسمح لنا بحساب دقيق للعوائد والتكاليف.

الأهم من ذلك أنه، وفي غفلة عن المنهج والمنطق في آن، تم الربط، فالخلط، بين العولمة كظاهرة كونية ذات فلسفة وآليات محددة، ومن ثم تأثيرات وتداعيات معينة من جهة، وبين منشأ الظاهرة من جهة أخرى؛ حيث اختصر المنشأ بداية في الغرب، ثم زاد الاختصار إلى الولايات المتحدة الأميركية، ليبلغ مداه الأكبر أخيراً في «السياسات العدوانية الأميركية تجاهنا» (عرباً كنا أم مسلمين).

وفي هذا الخضم العارم كان من المتعذر علينا إدراك أن تأثيرات العولمة فينا ليست نسخاً متكررة في القطاعات كلها، وأن ما قد يحدث في العسكرية بسبب العولمة قد يختلف عما يحدث على الصعيد السياسي، وأن ما سينعكس جراء العولمة على اقتصاداتنا ربما قد يختلف عن التأثيرات الثقافية، فضلاً عن أن ما قد يصيب المجتمع السعودي من تغير اجتماعي بسبب تلك الظاهرة قد يختلف، كماً أو نوعاً، عما قد يصيب المجتمع اللبناني على سبيل المثال.

والشاهد أننا بحاجة اليوم أكثر من أي وقت مضى الى مراجعة رؤيتنا لتلك الظاهرة؛ إذ بدا أننا، تحت ستار الرفض المكثف هذا، فقدنا القدرة على استخلاص العوائد، مهما كانت قليلة، وتفرغنا للهجوم والانتقاد ودفع التكاليف، مهما كانت فادحة؛ منشغلين بحربنا «المبدئية» عن مصالحنا المتغيرة.

فمما لا شك فيه مثلاً أن العولمة منحت قطاع الإعلام في عالمنا العربي تحديداً فرصاً أكثر مما فرضت عليه من تحديات ومغارم وقيود. فقد كرست العولمة وعززت قدرة نفاذ وسائل الإعلام الغربية إلينا، بما يقال إنها تحمله من رسائل ملغومة وغزو ثقافي، وهو حق لا جدال فيه، لكنها أعطتنا أيضاً قدرة النفاذ ذاتها؛ لنصوغ رسالتنا، ونعبر إلى الغرب هذا، ونخاطبه حيث هو بما كان يعز علينا فعله قبل العولمة وتأثيراتها.

اليوم يمكن لأي حكومة أو جماعة أو شركة أو شخص عربي أن ينشئ وسيلة إعلامية أياً كان مفهومها لدورها، ويستطيع أن يستورد لها أعلى تجليات التقنية المعمول بها في أكبر مواضع الإعلام في الغرب وأشهرها، كما يستطيع أن يستقطب أفضل الكوادر، سواء كانت قيادية أو وسيطة أو عادية، وأن يستورد تقنيات العمل، وأنماطه المؤسسية كلها دون أي حظر أو حماية.

اليوم يستطيع الوسط الإعلامي العربي إطلاق قناة فضائية كل ساعة، وأن تكون ناطقة بأي لغة يرغب، وموجهة لأي قارة مهما بعدت، بمحتوى يعتقد منتجوه أنه الأصدق أو الأكثر موضوعية أو تعبيراً عن وجهة النظر العربية.

العولمة أعطتنا الفرص كي ننشئ إعلاماً جديراً بالمنافسة على مستوى عالمي، وهو أمر لم نحظ به في أي صناعة أخرى حتى اليوم، اللهم سوى صناعة الندب والكلام.

 

كاتب مصري