Ad

في عالم آخر غير عالمنا العربي المغرق في بؤسه، كان شاب مثل علام فخور، وهو فنان ونحات واعد، مصيره أن تتلقفه المعاهد المتخصصة وصفحات الجرائد، وليس أقبية المخابرات وركناً في سجن صيدنايا العسكري. وكان شاب مثل حسام ملحم، يستعد لطباعة ديوانه الشعري الأول بدلاً من أن يكتب بعد فترة مذكراته أيام الاعتقال.

طرحت الدراما السورية خلال السنوات القليلة الماضية، العديد من الأعمال التي تتناول قضايا الجيل الشاب وأسباب «شيخوخته» المبكرة. النهايات الحزينة حلت محل النهايات السعيدة التي يمنّي بها المشاهد نفسه بعد طول ترقب. هي واقعية يقول البعض. فمن أجل ماذا تزييف الحقيقة والتبشير بأمل كاذب! على النهاية أن تتراوح ما بين سلم طائرة وزنزانة في سجن، وبينهما أحلام متفسخة وروح متشظية وقهر يستقر عميقاً جداً وثقيلاً جداً، يغدو معه رفع الرأس باتجاه السماء بحاجة إلى جهد جهيد.

دع عنك البطالة والفقر وتدني مستوى التعليم وانعدام تكافؤ الفرص، إلى آخر هذه السلسلة التي تطوق الشاب، كما سلاسل العبودية الغابرة. وتستوي مع ذلك هوية ضبابية، تتجاذبها شعارات الزيف عن «وحدة وحرية واشتراكية»، ويصيب منها ألماً ميراث من «الهزائم» هو كل ما ترك لأجيال ما بعد «الثورات». فلا أرض تحررت ولا لاجئ عاد ولا «أمة» توحدت. وبين «الحداثة» و«الأصالة»، الدين والدنيا، «الأمركة» و«العربنة»، يتأرجح جيل كامل غير محدد المعالم، ولا يراد أو يسمح له أن يكون غير ذلك. فمن شأن واقع مغاير أن يبني مستقبلاً تتسربل خيوط التحكم به من أيدي الممسكين بالزمن منذ عقود. ثم تأتي وصايا جبران خليل جبران المهملة في مجتمع لا يقل في معظمه الاستبداد العائلي والاجتماعي عن نظيره السياسي، «أولادكم ليسوا أولادا لكم... إنهم أبناء الحياة المشتاقة إلى نفسها... هم ليسوا ملكا لكم... إن لكم أن تجاهدوا لكي تصيروا مثلهم... ولكنكم عبثا تحاولون أن تجعلوهم مثلكم... لأن الحياة لا ترجع إلى الوراء...».

ناهيك عن الفجوة الجيلية التي يحرسها قانون الطوارئ وتعمقها أقبية السجون ويزيدها قطيعة طمس التاريخ وتهجيره! سألني صديق بلهجة استنكار، أليس مؤلماً أن معظم الأجيال الجديدة لم تسمع باسم شخصية وطنية مثل رياض الترك؟ رددت بسؤاله، أليس مؤلماً أن الأجيال الجديدة لم تسمع إلا لماماً بشخصيات وطنية صنعت تاريخ سورية الحديث، كخالد العظم وشكري القوتلي وفارس الخوري وسواهم؟ صناعة الذاكرة تدر أرباحاً مجزية على الأرجح! وشابة ممنوعة من الكلام والصراخ والتحليق، هو أشبه بغيمة صيفية -على جمالها- سرعان ما تضيع في البعيد.

مع هذا وذاك، ورغم سوداوية نهايات الدراما السورية، وربما من حلاوة الروح وحلاوة الحرية، فإن هنالك من لا يزال يقاوم للتحكم بزمنه الخاص، حتى وهو مقيد إلى سجنه!

منذ أسابيع، حكم على سبعة نشطاء شبان من قبل محكمة استثنائية (محكمة أمن الدولة العليا) بالسجن ما بين خمس إلى سبع سنوات. هؤلاء تعثروا بأحلام الديموقراطية والعدالة، وأرادوا أن «يكونوا». ولا أجد تعبيراً أفضل من هذا الأخير، عندما تكون الكينونة فعلاً معاقباً عليه بالسجن. وقتها، انتابني شعور غامض لم أجد له اسماً. فيما بعد، أصبح أكثر وضوحاً وأكثر قرباً. ربما يمكن تسميته بـ«كسر الخاطر».

ففي عالم آخر غير عالمنا العربي المغرق في بؤسه، كان شاب مثل علام فخور، وهو فنان ونحات واعد، مصيره أن تتلقفه المعاهد المتخصصة وصفحات الجرائد، وليس أقبية المخابرات وركناً في سجن صيدنايا العسكري. وكان شاب مثل حسام ملحم، يستعد لطباعة ديوانه الشعري الأول بدلاً من أن يكتب بعد فترة مذكراته أيام الاعتقال. وهكذا الحال مع كل من عمر العبد الله وطارق الغوراني وماهر اسبر ودياب سرية وأيهم صقر.

لا تمروا على أسمائهم سريعاً، ولا تتجاوزوها إلى السطر الذي يليها، فإنما ذكرتها كي تبقى في الذاكرة. ربما نحاول أن نعيد صياغة ذاكرتنا كما يجب. فلسبب ما، غالباً ما نحفظ أسماء مناضلي وشهداء «الأمة»، وتسقط «سهوا» أسماء من أدركوا قبل غيرهم أن حرية «الأمة» تبدأ بتحرير الأوطان من الداخل: دعوني أفكر وأبوح، يكاد الصدأ يغطي ما تبقى من نقاط ضوء.

حدث «الحياة» بحد ذاته، يوَلّد مزيداً من الهواء. وحدث القبض بالجرم المشهود على ممارسة «الحياة»، يخفض نسبة الأوكسجين إلى أدناها، لكنه لا يبعث على الموت.

محظوظ هو الشاب الذي ينشأ في وطن لا يحكم عليه بالشيخوخة المبكرة. ومحظوظ هو الوطن الذي يبقى حياً أبداً بجنوح شبابه نحو الانعتاق وطموحهم نحو الأفضل وتحقيقهم ذاتهم بما يحقق ذاته هو.

محظوظ هو وطن حظر عليه الحلم، لكنه حظي بمن لا يزالون يقاومون من أجل فتح أبواب الحلم والمحبة والحرية، من أجله ومن أجلهم.

 

كاتبة سورية