فضيلة التركيز الاستراتيجي

نشر في 23-09-2007
آخر تحديث 23-09-2007 | 00:00
 د. محمد السيد سعيد

عندما كان الهنود الحمر يذهبون إلى معركة عسكرية، ويطوقون خصومهم في حصار يكاد ينتهي بالخصوم للتسليم كانوا يتركون مواقعهم ويذهبون لمطاردة الغزلان.

مستحيل أن يكون الهدف الإلهي من تشريع شهر رمضان للصيام هو الامتناع عن الطعام والشراب بذاته أو حتى اعتياد وبناء القدرة على التحمل. فالأصل هو أن هذا الامتناع يسمح بالتركيز على فعل آخر. وأعتقد شخصياً أن شهر رمضان خُصص لتأمل مجمل الحياة الشخصية والجماعية والنظر في ما إذا كان استمرارها على النحو الذي درجت عليه مطلوب أم يجب تغييره؟

ولأن الناس في بلادنا العربية لم يفهموا من الصوم غير الامتناع عن الطعام والشراب من الفجر حتى غروب الشمس فهم يشعرون بالتشتت، ولا يكادون يلوون على شيء غير تمرير وقت الصيام. وإن فعلوا العكس لكان سؤالهم قبل رمضان هو ما المشروع الذي يجب أن يخصصوا رمضان هذا العام لتأمله وصياغته ورسمه وتطبيقه، وأن يركزوا تركيزاً كافياً على وضع تصور له حتى يروه وكأنه معهم لا يفصلهم عنه سوى متطلبات تطبيقه وانجازه. بذلك يصبح رمضان شهر إنجاز كبير، اضافة الى قيمته الروحية يصبح شهراً للممارسة المعرفية ولو بأبسط معانيها ودلالاتها.

التركيز هو الفضيلة التي تكتسبها مع الصيام باعتباره الممارسة أو الرياضة الروحية التي شرعها الإسلام، وتتفوق لو سيطرنا على فنونها على الرياضات العسكرية أو الروحية الآسيوية.

مناسبة الصيام تعني بداية أن الطعام والشراب ليسا هدفا للحياة الشخصية ولا المجتمعية. وهنا تحديدا يقع سر أو التبرير الفلسفي والأخلاقي لفكرة «المشروع» أو الهدف الكبير. وهنا تحديداً يقع الخلاف الذي يُحدث قطيعة حقيقية شبه كاملة مع الواقع السياسي العربي الراهن. وفي مناقشة مع رئيس دولة عربية كبيرة كان هذا الخلاف حاضراً بشدة، عندما لخص هدفه في قول أو جملة واحدة؛ وهي أن هدفه الأسمى هو اطعام شعبه. ويرد شهر رمضان بذاته على هذه الرؤية. فالصيام شعيرة تدربنا على القطيعة مع الطعام والشراب لنفهم أنهما ليسا هدفاً للحياة.

المشكلة الأكبر مع الدولة العربية الراهنة هي أنها على أفضل الأحوال «دولة الطعام والشراب». هدفها الأسمى هو أن تمر دورة الطعام والشراب كالعادة فلا تقع مجاعة ولا يحدث انهيار. وبديهي أننا لا يمكن أن ننجز أي هدف إن استمرت هذه الرؤية في الهيمنة على عقول قياداتنا السياسية وممارساتها السياسية.

ولا شك في أن هذه الذهنية برزت وهيمنت على الحياة السياسية العربية كرد فعل لعصر الطموحات الكبيرة التي طرحتها زعامات عربية كبيرة بدورها، وإن فاتها فضيلة التركيز وضاعت منها القدرة على رؤية خطواتها للمستقبل بقدر كاف من الوضوح المعرفي والعملية. فكان محمد علي مؤسس الدولة المصرية الحديثة يحارب في كل مكان دون تركيز على هدف استراتيجي واضح يصل به الى نقطة ما على خريطة الدنيا والدين. فلا تجد سببا مفهوما لحروبه في الموره وفي الجزيرة العربية ولا تدخلاته العسكرية في مختلف الميادين. وكان من المستحيل أن يواصل بناء صناعاته وأن يطور مدارسه أو يرسي بنية قاعدية لتطوير المجتمع الذي أسسه. وبالطبع لم يكن افتقاره للتركيز هو عيبه الوحيد، وإن كان العيب الأساسي في إستراتيجيته. وكرر الرئيس ناصر هذا الخطأ فشتت انتباهه بين ميادين شتى، ولم يعكف على إنجاز هدف ما حتى نهايته. وينطبق على مجتمع ناصر ما نبهنا إليه أحد المفكرين العرب في تفسير لماذا فشل الهنود الحمر في مواجهاتهم العسكرية مع المستوطنين البيض؟ إذ كانوا أكثر شجاعة وأكثر قدرة على التضحية وأحياناً أكثر عدة. ولكنهم عندما كانوا يذهبون الى معركة عسكرية، ويطوقون خصومهم في حصار يكاد ينتهي بالخصوم للتسليم كانوا يتركون مواقعهم ويذهبون لمطاردة الغزلان، فينفك الحصار ويبدأ الخصوم في الهجوم المضاد أثناء انشغال الهنود الحمر بالصيد والقنص.

والفكر العربي المعاصر وقع في الخطأ نفسه. وفي وثائق مهمة للمركز الأول للبحوث في الاستراتيجية الوحدوية العربية عبَّر مفكرون عرب عن هدفهم في معارضة الواقع؛ بطلب الاستقلال للتخلص من التبعية، والتنمية للتخلص من التخلف، والتحرير في مواجهة الاستعمار، ومضوا في ترسيم الأهداف الكلية وكأنهم يختارون أو يختالون بمعرفة ما يجب على العرب أن يحققوه دون أن يسألوا أنفسهم هل يمكن تحقيق هذه الأهداف كلها دفعة واحدة من دون تحقيب وتدرج من هدف لما يليه؟

ولو أنهم طرحوا السؤال لاضطروا الى اكتساب فضيلة التركيز الإستراتيجي. فإن كان عليك أن ترسم طريقاً لتعين عليك أن ترسم خريطة ذهنية. والخريطة الذهنية الضرورية هنا تبدأ بسؤال عن التداعي الصحيح بين الأهداف بالارتباط بعلاقات السبب والنتيجة وباتاحة الوسائل والموارد والقدرات.

ولربما مثلت هذه القضية ميداناً للمناظرات الأهم في الثقافة السياسية العربية المعاصرة. الآباء المؤسسون لمشروع النهضة العربية بدؤوا بمسألة الدولة الشورية أو الدولة الحديثة. وربما اختلفوا أو اتفقوا بشأن الاستبداد والديموقراطية. فضَّل بعضهم المستبد العادل أو المستنير وفضل آخرون التنظيم السياسي الديموقراطي الحديث. ولكن الفشل في بناء الدولة الحديثة أدى ببعضهم إلى الدفع بأن القضية «حضارية» وتاريخية وثقافية ـ فذهب هذا البعض إلى القول إن «التعليم» هو المفتاح للأهداف الأخرى، فأملوا أن ينتجوا جيلاً أكثر قدرة على الفهم والسيطرة على متطلبات النهضة، مما كان لديهم بالفعل. والواقع أن ما حدث لم ينسجم مع هذه التوقعات. ولو تحدثنا بأمانة كاملة مع النفس لخلصنا إلى أن التاريخ العربي الحديث شهد تدهوراً ملحوظاً في طموحات الأجيال المتعاقبة وفي رؤاها وقدراتها. وفشلت بدورها استراتيجية التعليم للنهوض بالواقع العربي، وهو أمر كان ملحوظاً بالفعل خلال أفضل عصور التعليم من حيث النوعية، وهو النصف الأول من القرن العشرين.

ماذا يمكن أن نفعل اليوم للتحرر من الوضع العربي المأسوي الراهن واستئناف مشروع النهضة؟ لو أخذنا بفضيلة التركيز الإستراتيجي أتصور أن نحدد البداية والمحطات الكبرى أولاً. ولعل الخريطة تنساب أمام أعيننا لو سألنا في البداية ماذا نملك؟ وكيف نطور ما نملك؟ إلى ما نريد في خطوة أولى ثم إلى ما نريد في خطوة تالية وهكذا ...؟

لنمسح الواقع العربي الراهن لندرك أن ما نملكه محدود كثيرا. فلم ننجح في بناء ثقافة سياسية عقلانية ولا تأسيس دول حديثة ومقتدرة، ولم ننجز حتى مهام الثورة الصناعية الأولى، ولم نتمكن من إثراء قاعدة علمية أو تكنولوجية مهمة، ونظمنا الاجتماعية مازالت ترزح تحت عبء الماضي. ولا نريد أن نواصل ترديد ما نعرفه جميعاً.

وربما نستنتج بالمقابل أن أفضل ما نملكه هو بعض العناصر الأساسية واللازمة للتطور نحو مجتمع المعرفة. صحيح أن تقرير التنمية البشرية أكد تخلفنا في هذا المجال عن غيرنا من الأمم والشعوب والثقافات. ويكفي ما قاله إن ما يترجم في عام واحد بدولة ليست خارقة مثل إسبانيا يزيد عما ترجم طوال التاريخ إلى العربية. ولكننا بالمقابل من أكثر المجتمعات سرعة في التحرك نحو السيطرة على تقنيات المعلومات، ولدينا قاعدة واسعة نسبياً من المتعلمين والتقنيين. ويمكننا أن ننجح بطريقة لا تختلف كثيراً عن الطريقة الهندية.

وما نقترحه هو أن ننمي بقوة القاعدة المؤسسية لمجتمع المعلومات ونتحرك منه إلى مجتمع المعرفة، فإن تمكنا من إنجاز هذه المهمة فسنستطيع أن ننتقل بصورة أسرع وأكبر إلى بناء دولة حديثة، ثم إلى دولة ديموقراطية ثم إلى مجتمع عصري وقادر على السيطرة على موارده وقدراته وتطويع معطياته لمصلحة أهدافه القومية الأخرى. وربما يسأل بعضهم لماذا لا نبدأ بالتعليم أو بالانتقال أولاً الى مجتمع المعرفة. فالتعليم أساس لا غنى عنه لمجتمع المعلومات، والمعرفة مفهوم متفوق تلقائياً على المعلومات. ولا يمكن استيعاب دلالة المعلومات من دون مقاربات معرفية سليمة. وهذا صحيح. ولكن صحيح أيضاً أننا لا نملك قاعدة معرفية تذكر على الأقل، بالمقارنة بما نملكه ونستطيع الحصول عليه من العناصر القادرة على السيطرة العملية والميدانية على المعلومات ومرافقها الأساسية. وقد لا نتمكن من بناء قاعدة معرفية سليمة إلا إن توافرت لنا قاعدة معلوماتية كافية. والأهم هو أننا لا نملك مفاتيح إصلاح تعليمي جوهري في الوقت الراهن بعد أن وصلت تشوهات الدولة العربية إلى قمتها، وذهبت التشوهات البنيوية في التركيبة الثقافية، وربما الأخلاقية، إلى أبعد مسافة عما نأمله لأنفسنا وأولادنا.

تملي فضيلة التركيز الاستراتيجي ليس فقط تركيز الإرادة على إنجاز مهمة معينة، وانما أيضا أن نبدأ بأفضل ما لدينا لنصل في النهاية إلى أعز ما نريده، أي بناء مجتمع عربي له رسالة روحية وأخلاقية وإنسانية عظيمة. ورمضان هو خير ما يذكرنا بهذا الواجب. لعلنا لا ننسى.

* كاتب مصري

back to top