وجهة نظر :السمّ في العسل...

نشر في 25-01-2008 | 00:00
آخر تحديث 25-01-2008 | 00:00
بين سلطة بلدي المصري و زيارة الفرقة الإسرائيلي!
 محمد بدر الدين يثير الفيلم التسجيلي الطويل «سلطة بلدي» للمخرجة المصرية نادية كامل جدلاً في الآونة الأخيرة إذ وجد البعض، عن حق، رابطًا بينه وبين الفيلم الإسرائيلي «زيارة الفرقة» إخراج عيران كوليرين الذي حصد جوائز محلية ودولية.

لعل الرابط الأساسي هو أن كلا الفيلمين يقوم (في الظاهر) على موقف إنساني بحت، لا مشكلة فيه ولا غضاضة، لكن المعضلة تكمن كلها في ما وراء ذلك الموقف! يصوّر فيلم المخرجة المصرية سيدة مسنة، هي أمها نائلة، التي كانت في شبابها المبكر ضمن اليهود المصريين الذين يعيشون في مجتمع مصري يتعايش فيه أصحاب الانتماءات الدينية الكثيرة ومختلف الجاليات الأجنبية بتواد حقيقي، أسلمت وتزوجت من الشيوعي المصري المخضرم المعروف سعد كامل، والد المخرجة لكنها، وهي تبلغ اليوم هذه السن المتقدمة، تحن إلى رؤية أقاربها من اليهود الذين هاجروا في الأربعينيات من القرن العشرين، بعضهم إلى إيطاليا وبعضهم إلى «إسرائيل». تصور كاميرا المخرجة الشابة (الابنة) الرحلة التي ستقوم بها الأم إلى الأهل في إيطاليا، وفي أعقابها رحلة أخرى تقوم بها إلى أقاربها في «إسرائيل»!

تتردد الأم كثيرًا، بالنسبة الى الرحلة الأخيرة، كما يظهر في الفيلم، كذلك يتردد زوجها المناضل القديم، ربما أكثر، لكنه يقرر في النهاية مرافقتها في «الرحلة إلى إسرائيل». يصور الفيلم اللقاءات الحميمة والمؤثرة بين المرأة وأقاربها الإسرائيليين الذين يأخذون في التذكر والتذكير، بأيامهم الجميلة التي لا تنسى في مصر في سنوات صباهم. نجد أحدهم يقول، والقبعة اليهودية فوق رأسه، إن عشقه الدائم لغناء أم كلثوم قد استمر، وأنه في الموعد الذي يذيع فيه الراديو أغانيها كل يوم، يغلق بابه عليه ويعيش أجمل اللحظات مع صوتها وأمتعها و«ممنوع دخول أي شخص... مهما حصل».

يفاجئك قول هؤلاء الأقارب أنهم سافروا من مصر عام (1946)، كما تلفت نظرك بوضوح صورة على الحائط لشابين من أبناء هذه الأسرة في زي جنود «جيش الدفاع الإسرائيلي»، لكن المخرجة تتجاهل هذا كله... متوهمة أنها تقدم موقفًا إنسانيًا بحتًا، أو تتخيل ذلك ولا تسأل نفسها ولا تريدنا أن نسأل، عما يصنعه هذان المجندان، ضمن جيش الاحتلال من مجازر يوميّة ضد شعبنا. أو لماذا سافر هؤلاء الأقارب أصلاً عام 1946، أي قبل قيام نظام ثورة يوليو 1952 الذي يجيء الادعاء على لسان بعض الأقارب الذين زارتهم نائلة في إيطاليا بأنه السبب، قائلاً أحدهم: «إن النظام المصري كان ضد الأجانب وغادرنا مصر بسبب نظام عبد الناصر». ففي عام 1946 لم يكن قد ظهر عبد الناصر، بل لم تكن قد قامت حرب فلسطين أصلاً التي استولى فيها الصهاينة على معظم الأرض الفلسطينية. تجاهل المخرجة واضح لحقيقة وسائل جذب «الوكالة اليهودية» لليهود في مصر وغيرها وإغرائهم للذهاب إلى الكيان الذي يريدون اصطناعه على حساب فلسطين.

هؤلاء الأقارب ليسوا مجرد يهود بل صهاينة لأنهم اعتنقوا الفكرة الصهيونية بإقامة دولة لليهود في فلسطين ولم تقم هذه الدولة إلا بتلك الموجات المتتابعة من تهجير اليهود من بقاع وبلدان العالم المختلفة إلى فلسطين وبأبشع أساليب التمييز العنصري والإبادة للشعب الفلسطيني، المستمرة يوميّاً!

أما الفيلم الإسرائيلي «زيارة الفرقة» فيصور فرقة موسيقية مصرية تزور «إسرائيل» (كما يتخيل المخرج وهو نفسه كاتب السيناريو) لكن أفرادها يتوهون في الصحراء وينتهي بهم الحال إلى قرية نائية، فلا يجدون مفراً من قضاء ليلتهم فيها بانتظار الصباح وتستضيفهم «دينا» صاحبة المطعم البسيط في القرية. كذلك، يصور الفيلم تواصلاً وتعاطفًا «إنسانيًا ينشأ بين المصريين الطيبين الذين تاهوا والإسرائيليين الكرماء الذين استضافوا، يصل إلى حد لحظات من الغرام والحب بين دينا الإسرائيلية وتوفيق قائد الفرقة المصري.

بدوره يتجاهل الفيلم الإسرائيلي «كل شيء»، عدا هذا اللقاء الإنساني والتواصل أو التفاعل الإنساني الحار.

تعني كلمة «كل شيء» هنا وطنًا بكامله قد سُرق وتعني أن هذا السارق لا يزال يعتدي ويسفك الدم كل يوم.

بدا اللقاء في فيلم «سلطة بلدي» بين السيدة المسنة وأقاربها في أثناء زيارتها إلى إسرائيل إنسانيًا مؤثرًا حميمًا حقًا. جاء الفيلم الإسرائيلي «زيارة الفرقة» ناعمًا متقنًا من الناحية الفنية والحرفية حقًا، لكن هذا وذاك «طبقة من السكر»، ما تخفي في طياتها لا يمكن أن يستساغ أو يقبل!

أو هو ببساطة وإيجاز... السم في العسل!

back to top