سركون بولص والموت في المنفى

نشر في 26-10-2007
آخر تحديث 26-10-2007 | 00:00
 محمد سليمان

من المثير أن سركون بولص الذي عاش مغترباً هذه الأعوام كلها، والذي صار شاعراً عراقياً عربياً وأميركياً، ظل مسكوناً بالتراث العربي وتفاصيل الحياة اليومية في عراق الخمسينيات والستينيات، عراق الطفولة والصبا وبداية الشباب، وكأنه اتخذ من ذاكرته ملاذه الأول والأخير.

كأنما كُتب على شعراء العراق أن يعيشوا في المنافي وأن يموتوا فيها، وكأن العراق يستكثر على أبنائه الشعراء أن يعيشوا فيه وأن يحبوه.

بعد السياب والبياتي ونازك الملائكة، لن يكون سركون بولص الذي تُوفي قبل أيام في برلين آخر الشعراء العراقيين المقتلعين من أرضهم والمنذورين للموت في المنافي.

العنف رافق التحولات دائماً في العراق، ومنذ الخمسينيات كان شعراء العراق وكتابه يفرون أو يهاجرون بحثاً عن ملاذات لأنفسهم وإبداعهم. وقد آلمني في الشهور الأخيرة قول الصديق الشاعر العراقي الكبير سعدي يوسف الذي حصل على الجنسية البريطانية ويعيش في لندن، إن العراق أصبح فقط مكان ميلاده وذلك في حوار أجرته معه جريدة أخبار الأدب في مصر.

وسركون بولص، الذي رحل عن ثلاثة وستين عاماً، واحد من أهم شعراء المهجر الجدد، ولد في شمال العراق عام 1944 بالقرب من بحيرة الحبانية، وهاجر في أواخر الستينيات أولاً إلى بيروت ومنها إلى أميركا عام 1969، لكي يتخذ من مدينة سان فرانسيسكو وطناً بديلاً، ومن الشعر مهنته الوحيدة، ومن السفر والتجول وسيلة لاقتحام العالم والانفتاح على ثقافاته وشحن نصه الشعري من ثم بالثراء والفرادة.

وأظنه قد نجح إلى حد بعيد مع زميله الشاعر المهجري اللبناني وديع سعادة الذي يعيش في أستراليا، في ترسيخ قصيدة النثر ومنحها زخماً وحيوية ومكانة في المشهد الشعري المعاصر رغم تأخر صدور أعماله بسبب أسفاره وتجوله في العالم؛ فقد صدر ديوانه الأول 1985 بعد أن تجاوز الأربعين من عمره.

وصدر للشاعر العديد من الدواوين ومنها «الوصول إلى مدينة أين -الحياة قرب الاكروبول الأول والتالي- حامل الفانوس في ليل الذئاب»... ومنحه وجوده في سان فرانسيسكو فرصة الاطلاع ومتابعة إنجاز التيار الشعري الأميركي الشهير المسمى بـ«جيل البيت»، ومن ثم إثراء تجربته الشعرية بمنجزات القصيدة الأميركية الحديثة والمتمردة، كما ترجم بعض القصائد لشعراء هذا الجيل نشرتها مجلة شعر اللبنانية لكي يُعرِّف القراء العرب بشعراء طليعيين من أمثال «آلان جينسبرج» الذي يعد الأب الشرعي لتيار ما بعد الحداثة

في أميركا.

ومن المثير أن سركون بولص الذي عاش مغترباً هذه الأعوام كلها، والذي صار شاعراً عراقياً عربياً وأميركياً، ظل مسكوناً بالتراث العربي وتفاصيل الحياة اليومية في عراق الخمسينيات والستينيات، عراق الطفولة والصبا وبداية الشباب، وكأنه اتخذ من ذاكرته ملاذه الأول والأخير رغم أسفاره الكثيرة وحبه لمدينة سان فرانسيسكو التي تمنى أن يموت فيها... وقد سجل ذلك في إحدى قصائده عندما قال:

أيان ترابط أو تهيم

لك تلك النغمة الأولى

في كل وصول

وفي كل مغادرة

ولأن الشاعر لا يستطيع التحرر من ذاكرته، صاح سركون في إحدى قصائده «أنا أبو تمام أقول لا تدفنوا الجنين في بئر أبيه»... وحدثنا في قصيدته «بستان الأشوري المتقاعد» عن النجوم التي تنطفئ فوق سقوف كركوك، والأشوري المتقاعد الذي يقتلع ضرسه المنخور بخيط يربطه إلى «أكرة» الباب ثم يرفس الباب بكل قواه مترنحاً.

كشاعر حقيقي اتكأ سركون على تجربته الحياتية ومجمل خبراته وثقافته الواسعة، وكذلك على الذاكرة والتأمل والقدرة على الرصد وتشكيل الصورة أو المشهد:

العازف في ركنه

يعانق عوده بوداعة كأنه يصغي

إلى بطن حبلى بينما أصابعه تعذب الأوتار

وللنص المشرق البسيط والعميق أيضا حضوره البارز في أعمال الشاعر، ويتشكل هذا النص عادة بعد تأمل عميق واختيار المفردات الأبسط والأصفى وبالتالي تصفية القصيدة وتخليصها من كل ما لا يفيد كما نرى في قصيدته «تقرير من الجبهة»:

أنا جندي

أنام خلف المتاريس

حالما بزوجتي وبيتي

لا بوجه عدوي البائس

إذ يموت

المنفى كان حائطاً بين شعر سركون بولص والقراء، وكذلك صدور بعض دواوينه في ألمانيا واليونان. كما أن الشاعر عاش منكفئاً على قصيدته مبتعداً عن الإعلام والعلاقات والشلل، لذلك لم تحظ قصائده بالانتشار والاهتمام الإعلامي والنقدي.

* شاعر وكاتب مصري

back to top