لم تكن مذبحة القلعة هي فصل الختام في المأساة المروعة التي خطط لها محمد علي بإتقان، فالبكوات الذين حصدهم رصاص الألبان كانوا 405 فقط، أما البقية فكانوا -وقت المذبحة- آمنين في قصورهم لا يدرون شيئاً مما جرى لزعمائهم، فما إن سكن غبار المذبحة حتى انقض الجند الألبان على قلب القاهرة يذبحون المماليك في عقر دورهم، كانت تعليمات الإبادة صريحة حتى لا يبقى على ظهر الأرض من المماليك دياراً، وباتت القاهرة في ذلك اليوم المشؤوم أشبه بمدينة مفتوحة أمام غزوة تترية، ولم يسلم المصريون من هذه المحنة القاسية، فأصابهم بعض ما أصاب المماليك من عمليات النهب والسلب، ولم تتوقف تلك الفوضى إلا بعد أن نزل محمد على بنفسه إلى الشوارع لكبح جماح جنوده، وأعاد الانضباط إلى المدينة التعيسة وانطوت إلى الأبد من تاريخ مصر صفحة المماليك بعد خمسة قرون أو يزيد عاشوها في أحضان مصر المحروسة، يتقلبون في أعطاف نعيمها وينهلون من رضاب نيلها، أولئك هم الصعاليك الذين جاءوا إلى مصر غلماناً يباعون في أسواق النخاسة حتى أصبحوا ملوكاً يدين الناس بالطاعة لهم، ويدعون لهم بالنصر والعز والتأييد.

Ad

فوا رحمتاه على أولئك الصناديد الذين تربوا على صهوات الجياد، وانصهروا في غبار المعارك، ولم يعرفوا إلا لغة الحرب، فأذلوا كبرياء هولاكو في عين جالوت، وأسروا لويس التاسع في المنصورة، وحرروا القدس من دنس الصليبيين، وا أسفاه عليهم حين خلدوا إلى النعيم واللهو والمجون، فلانت قناتهم وصدأت سيوفهم، ولم يبق منهم سوى ثياب مزركشة وخيول مطهمة وقبل أن يفنى المماليك على يد محمد علي كانت عوامل الفناء الذاتي قد حكمت عليهم بالموت البطيء... إنها عبرة التاريخ لمن يريد أن يعتبر...