رحلت والدنا
إن قصة حياتها هي قصة الأمهات اللاتي عرفتهم الكويت قبل النفط. الأم التي كانت كل شيء، التي كان زوجها يغيب شهوراً في رحلات الغوص والسفر وتبقى الأم... هي الأم والأب. نعم... رحلت الأم التي تولت مسؤولية الأب منذ أكثر من ستة وأربعين عاماً، حين امتدت يد الغدر والإجرام واختطفت والدنا وغيبت أثره، فلم نعرف مصيره حتى يومنا هذا. كان ذلك في نهاية عام 1961، وكان أول شيء خطر ببالي هو ترك الدراسة والالتحاق بأي وظيفة لأساعد العائلة، ولكن المرأة القوية الحالمة بمستقبل أفضل أقسمت، إلا أن أكمل تعليمي وأسافر بعد استكمال الثانوية للحصول على الشهادة الجامعية. قالت لا تقلق فأنا قادرة على تحمل المسؤولية وإدارة شؤون الأسرة. وكانت بالفعل رجلاً ولا كل الرجال. بدخل بسيط و12 ولداً وبنتاً تمكنت من إدارة شؤون الأسرة بكل اقتدار. وسدت مكان الأب، وإن ظل في فكر وقلوب الجميع. حين سألها المحققون عمن تعتقد أن يكون المتسبب في اختفاء زوجها كانت من الجرأة أن قدمت أسماء كبارا من الذين أساؤوا إليه في مناسبات مختلفة، ولم تقل لنا ما قالت خشية أن نتضرر بسببه إلا بعد سنين طويلة... وللأسف فإن المحققين لم يأخذوا بأقوالها وركزوا جهودهم على النواحي الشخصية وتركوا الفاعلين المحتملين من دون متابعة. وحين قلت لها إن لنا أخوة في سورية أريد احضارهم للعيش معنا، لم تمانع وعاملتهم معاملة أبنائها، لم يكن بمقدورها في ذلك الوقت أن تلبي طلبات الأبناء كلها، وكانت حازمة في الصرف لكي يفي القليل بحاجة الجميع. فلم تستسلم للعواطف وركزت على الحاجات الضرورية، ولكن حين زاد الدخل لم تبخل على الحاجات الكمالية. وحين كبر الأطفال كبرت حاجاتهم وظلت ترعاهم وتوفر لهم ما يريدون حتى استقل كل منهم بمسكنه. إن قصة حياتها هي قصة الأمهات اللاتي عرفتهم الكويت قبل النفط. الأم التي كانت هي كل شيء، التي كان زوجها يغيب شهوراً في رحلات الغوص والسفر وتبقى الأم... هي الأم والأب. والدتنا لم يسافر عنها زوجها طوعاً ومع ذلك كانت الأم الرائعة التي حتى النَفَس الأخير كان جل اهتمامها كل فرد في عائلتها. كان مجلسها في الخالدية مركزاً لكل أحفاد علي البداح وأحفاد أحمد الرشيد وأقربائهم وأنسبائهم، فهو المكان الوحيد الذي يضمهم في المناسبات كلها. وحين غيَّب الموت كبار السن منهم وانتقلوا إلى رحمة الله، تعزز مجلس الوالدة أكثر فأكثر، بوصفه موقعاً يلتقي فيه كل الأعمار... فالجميع كانوا يريدون أن يُبقوا العائلة مترابطة ويحنوا لذكرى من مات ويجدوا لديها كل ضالتهم، فعندها يتعلمون الماضي، وبيت العائلة الكبيرة في الثلاثينيات والأربعينيات، ومنها كلٌ يرسم في ذهنه شكل الحياة في عصر ما قبل النفط. كانت ذاكرتها، رحمها الله، قوية ودقيقة تحفظ الأحداث والأسماء. كنا نتعجب من قدرتها، حتى حين تقدم بها العمر، من حفظ أسماء أبناء الأبناء وكانت تسأل كل زائرة أو زائر عن أطفاله وأحفاده بالاسم. وحين بدأ المرض يأكلها وبدأت الذاكرة تخونها، فإن الماضي ظل باقياً. وكنت حين أجلس معها في الأمسيات كان جل متعتي أن أذكرها بأغاني الأيام الخوالي ونتشارك في أدائها. كانت تحفظ القرآن وتستمع الى المقرئين وتسبقهم في ذكر آيات الله العظام. لم يتوقف لسانها عن ذكر الله حتى آخر لحظة في حياتها. لو أردت أن أكتب سيرة حياتها لقضيت بقية العمر في كتابته، فهي سيرة طويلة من الكفاح المستمر والإنجاز. رحم الله لطيفة أحمد رشيد البداح وأسكنها فسيح جناته.