مثقّف بثماني عيون
على الباحثين والمثقفين الحق أن ينحازوا إلى الناس وقضاياهم، والمجتمع ومشاريعه، مبتعدين عن غواية السلطة، وعليهم أيضا أن يتمسكوا بالمثل، وألا يستسلموا لرداءة الواقع، حتى يشدوا أمتهم وراءهم على طريق النهضة. تراجع وجود المثقفين الموسوعيين في حياتنا الفكرية العربية بدرجة كبيرة، تارة لكسل عن الإخلاص للمعرفة في حدها الأقصى، الذي يقوم على مبدأ «القراءة بلا حدود وفي أي اتجاه»، وطوراً نتيجة الاستسلام للاكتفاء بالتخصصات الدقيقة في ظل الانشطار المعرفي الذي نعيشه في الوقت الراهن، والذي قاد الكثير من مدارس البحث في العلوم الاجتماعية إلى التركيز على ما تسمى «الأبحاث الصغيرة» أو التي تعالج «قضايا محدودة معزولة، أو مسائل فرعية محددة، قد يعيش الباحث طيلة حياته منكبا عليها، غارقا فيها، لا يعرف شيئا غيرها أو خارجها، سادرا في شعور زائف بالاكتفاء، أو مؤمنا بأن العلم يقتضي توزيع البحاثة على تخصصات صغيرة، يجاور بعضها بعضا، وقد تتلاصق أو تتلاقى لدى مؤسسات معينة، أو عقول بعينها، يعرفها الباحث الفرعي، ويدرك أن جهده يصب فيها، كما يصب الرافد الصغير في مجرى النهر. وفي حالات معينة لا يعرف الباحث الفرعي إلى أين يذهب جهده، وماهية الجهات التي تستفيد منه، فيظل طيلة حياته معزولا، ويتحول العلم لديه إلى مجرد مهنة يتعيش منها، شأنها شأن أي حرفة يدوية كالفلاحة والنجارة والحدادة، أو ذهنية كالمحاماة والمحاسبة. والاهتمام بالفروع ليس شرا محضا، ولا تفاهة خالصة، حين يؤمن أصحابه بروح الجماعة العلمية أو الفريق البحثي، لكنها تصير تافهة وهامشية حين يعتقد هؤلاء أن ما يمتلكونه هو العلم من كل أبوابه الواسعة، وأنه ليس هناك حاجة إلى الإلمام بالكل من أجل فهم الجزء، وأن هذا الجزء الصغير يمكن أن يستمر وجوده ويتطور قدما بمفرده، مستغنيا تماما عن عطاء الفروع الأخرى من العلم، ومكتفيا بحالة من الجدل الداخلي الدائم. ومثل هؤلاء لا يلتفتون كثيرا إلى أمرين أساسيين، الأول هو أن فروع العلوم قد تطورت من خارجها، أو نتيجة لتفاعلها مع فروع علمية أخرى، فهي في هذه الحال تبدو نهيرا صغيرا ينبع من النهر الكبير، أما إن انغلق الفرع على ذاته، أو هكذا فعل به أصحابه والمختصون به، فإنه يصير مثل بركة ماء حبيس، أقصى ما يطرأ عليها من تغير إيجابي هو أن تضربها الرياح، فيهتز سطحها، لكن تظل أعماقها راكدة، وتحتاج إلى زلزال كي ترتج وتموج فلا تتعفن. وفي حقيقة الأمر فقد أدى التفاعل بين الفروع الرئيسة في العلوم إلى إبداع علوم جديدة، فعلم الاجتماع مثلا، نبتت على ضفافه الرحيبة ألوان من العلوم مثل علم الاجتماع السياسي وعلم النفس الاجتماعي وعلم اجتماع المعرفة وعلم الاجتماع القانوني... الخ. وتفاعل علم السياسة مع الاقتصاد فولد الاقتصاد السياسي، ومع علم النفس فأنتج علم النفس السياسي، ومع الجغرافيا، فولدت الجغرافية السياسية، ومع الفلسفة فتغذت النظرية السياسية والفكر السياسي على حد سواء. وفي العلوم الطبيعية مثلا ولدت الكيمياء العضوية من تفاعل علمي الكيمياء والأحياء، وهكذا. أما الأمر الثاني فتفرضه طبيعة العلوم ذاتها، فالإنسانيات مثلا تبدو في نظر كثيرين علما واحدا له فروع عدة، وأن تفسير أي ظاهرة إنسانية لا يمكن أن نضمن له السلامة والصحة والدقة من دون أن ننظر إليها من شتى جوانبها، مستفيدين من كل ما تتيحه ألوان العلوم الاجتماعية من مؤشرات ونماذج إرشادية وأفكار... الخ. ففي العلوم الطبيعية نقول في تفسير بعض المعادلات الكيمائية عبارة «مع تثبيت العوامل الأخرى»، لكن مثل هذه العبارة لا تصح في العلوم الإنسانية، لتداخل الأسباب التي تنتج الظاهرة، ولتعقدها إلى أقصى حد.وهناك باحثون ينأون بأنفسهم عن هذه المسارات الضيقة، فيزاوجون بين الرؤية العامة العميقة والتخصص الدقيق، ويتخذون من الأولى إطارا أرحب لفهم الثاني، الأمر الذي يهبهم تميزا ملحوظا في مجالهم. وهناك من يعلون فوق هذه المسارب الصغيرة، وينهلون من كل خبر بطرف، ويقطفون من كل بستان للمعرفة أجمل ما فيه من أزهار وورود، ويضربون الأفكار والمعلومات والرؤى والاتجاهات على اختلافها في بعضها البعض، فيخرجون بحاصل معرفي جديد، بعد أن يروا الظواهر من كافة جوانبها وكأن للواحد منهم ثماني عيون. مثل هؤلاء يرتقون الدرجة الأولى للثقافة، وعليهم أن ينحازوا إلى الناس وقضاياهم، والمجتمع ومشاريعه، مبتعدين عن غواية السلطة، وعليهم أيضا أن يتمسكوا بالمثل، ولا يستسلموا لرداءة الواقع، حتى يشدوا أمتهم وراءهم على طريق النهضة، ومن ثم يستحقون أن يحملوا لقب مثقفين. كاتب وباحث مصري