النظام المصرفي المعيب

نشر في 27-04-2008
آخر تحديث 27-04-2008 | 00:00
يتوقع صندوق النقد الدولي أن تصل الخسارة الإجمالية في ميزانيات المصارف نتيجة للديون المعدومة إلى حوالي التريليون دولار على مستوى العالم. ولمواجهة المشكلة المالية الراهنة فإن الأمر يتطلب فرض تنظيمات مصرفية أشد صرامة من أجل رفع احتمالات السداد، وبالتالي جودة السندات. ولابد أن تتمتع المنتجات المالية بالشفافية، ولابد من تحجيم العمليات التي تتم خارج دفاتر الموازنة بواسطة تطبيق مستويات مرتفعة من معدل حقوق الملكية/الأصول.
 بروجيكت سنديكيت بعد أزمة الديون في عام 1982، وأزمة المدخرات والقروض في الولايات المتحدة في أواخر الثمانينيات، والأزمة المالية التي شهدتها آسيا في عام 1997، تُـعَد أزمة الرهن العقاري الثانوي الأزمة المصرفية الكبرى الرابعة منذ الحرب العالمية الثانية، والأضخم على الإطلاق. وطبقاً لصندوق النقد الدولي، فإن الخسارة الإجمالية في ميزانيات المصارف نتيجة للديون المعدومة سوف تبلغ حوالي التريليون دولار على مستوى العالم، وبطبيعة الحال سوف تتحمل المؤسسات المالية في الولايات المتحدة نصيب الأسد من هذه الخسائر. وإذا ما علمنا أن مجموع سندات رأس المال لدى المؤسسات المالية كلها في الولايات المتحدة يبلغ حوالي 1.2 تريليون دولار، فإن هذا يجعلنا ندرك فداحة الخسارة.

ولكن لماذا تحدث الأزمات المصرفية؟ هل يرجع هذا إلى جهل مدراء البنوك؟ ولماذا يوافقون على خوض المجازفات التي تدفع بنوكهم إلى حافة الإفلاس؟ الحقيقة أن الإجابة تكمن في تركيبة تتألف من النظام المصرفي الرديء والعديد من التأثيرات الناجمة عن المخاطر الأخلاقية التي لم ينجح النظام الإشرافي الحالي في احتوائها.

إن النظام المحاسبي الرديء يتمثل في المعيار الدولي للتقرير المالي (IFRS)، الذي تستخدمه الآن الشركات الكبرى في أنحاء العالم المختلفة. ويكمن عجز هذا النظام في عدم قدرته على تخفيف العدوى النظامية الناتجة عن تحركات أسعار الأصول. فحين تتحرك أسعار الأصول تضطر الشركات المالكة لهذه الأصول إلى إعادة تقييمها في دفاتر موازناتها كل ربع عام. وتؤدي التقارير الموقوتة عن مكاسب رأس المال غير المحققة والخسائر إلى تقلب حصص الشركات التي تملك هذه الأصول، الأمر الذي يتسبب في إرسال موجات تصادمية عبر النظام المالي.

والبديل هنا يتلخص في ابتكار نظام محاسبي وقائي، كذلك الذي استخدمته الشركات الألمانية جميعها قبل الانتقال إلى العمل بالمعيار الدولي للتقرير المالي. ففي النظام الألماني التقليدي، كان تقييم أصول أي شركة يتم طبقاً لمبدأ «القيمة الأدنى»: الذي يقضي باستخدام أدنى قيمة للشركة طيلة تاريخها وسعرها الحالي في السوق للأغراض المحاسبية. ولقد سمح هذا النظام للمدراء بملاحقة الأهداف الأبعد أمداً وأثبت فعاليته في منع آثار العدوى. والحقيقة أن هذا النظام كان من بين الأسباب الرئيسية وراء استقرار النظام المالي الألماني.

تشتمل الأزمة الحالية على ثلاثة آثار مترتبة على المخاطر الأخلاقية وتتسم بأهمية خاصة. أولاً، تعتمد رواتب المدراء أكثر مما ينبغي على أداء سعر الأسهم على الأمد القصير، وهو ما قد يرجع إلى التأثير المفرط للبنوك الاستثمارية على سياسات البنوك التجارية. ونظراً لأن البنوك الاستثمارية لا تستطيع الحصول على معدلات مرتفعة من العائدات إلا في عالم يتسم بتقلب أسعار الأصول والاهتمام بأهداف الأداء قصيرة الأجل، فإن الشركات تضغط على مديريها لسلوك الخط نفسه.

ثانياً، يعكس خوض البنوك للمجازفات الاستثمارية المفرطة توقعها لمسارعة الحكومات إلى إنقاذها إذا ما دعت الضرورة. وكانت هذه هي الحال في أزمة الادخار والقروض، حيث عملت الحكومة بوضوح كضامن للودائع. وتستطيع البنوك أن تسرف في تحمل المشاريع التي تتسم بالمجازفة دون التسبب في تخويف المستثمرين، وذلك لأن الحكومات لابد أن تلعب دور المقرض كملاذ أخير.

في أزمة الرهن العقاري الثانوي كان الأمر يشتمل على ظاهرة مماثلة، حيث تصورت البنوك أنها أضخم من أن تتركها الحكومات للفشل. وربما يتأكد هذا التصور لدى البنوك بعد أن سارع بنك إنجلترا (المركزي البريطاني) إلى إنقاذ «نورثرن روك» وبعد أن ساهم مجلس الاحتياطي الفيدرالي (المركزي الأميركي) في الولايات المتحدة بثلاثين مليار دولار لإنقاذ «بير شتيرنز».

ثالثاً، وربما الأكثر أهمية، المخاطر الأخلاقية الناجمة عن المعلومات اللامتماثلة بين البنوك والمقرضين. فالبنوك تصدر سندات تتميز بأسعار فائدة اسمية جذابة إلا أن احتمالات سدادها غير مؤكدة. وفي كثير من الأحوال تشتمل الأوراق المالية المنشأة بدعم من محافظ استثمارية معقدة على أصول جيدة وأخرى رديئة لا يمكن تقييم حجم المجازفة المترتبة عليها بسهولة. وحتى وكالات التقييم الخاصة كانت تهون من شأن المجازفة بصورة واضحة، الأمر الذي ساعد في إغراء المستثمرين الماليين العالميين إلى شراء السندات المدعومة بالرهن العقاري بأسعار مبالغ فيها.

وعلى هذا فلم يكن هناك ما يمنع البنوك من بيع السندات «المعيبة». ومثل السيارات المستعملة التي تتفكك بمجرد بيعها، أو الفاكهة التي تبدو لذيذة ولكنها بلا مذاق، أو الملابس التي تصبح رثة بالية بعد ارتدائها بضع مرات، فإن البائع قد يقلل من جودة المنتج ويختصر التكاليف دون علم المشتري. وبما أن المنتجات المتدنية الجودة تباع بنفس سعر المنتجات عالية الجودة فإن الأخيرة تختفي من السوق.

في أسواق رأس المال تتفاقم حالة المعلومات اللامتماثلة بين مشتريي وباعة السندات وتزداد تعقيداً وتطرفاً، الأمر الذي يقوي من الإغراءات التي تدفع البنوك إلى إصدار سندات قادرة على زيادة أرباحها المتوقعة من خلال تخفيض احتمالات تسديدها إلى حد أدنى مما ينتظره المشترون. ولكي تفعل البنوك هذا فإنها تبتكر هياكل مطالبة قانونية مقعدة يعجز أي شخص عن فهمها بالكامل، وتعمل بالاستعانة برأس مال لا يكفي لتغطية المجازفات. وهذا من شأنه أن يخرب السوق بالنسبة للأدوات المالية السليمة وأن يقوض قدرة النظام الرأسمالي على البقاء.

ولمواجهة هذه المشكلة فإن الأمر يتطلب فرض تنظيمات مصرفية أشد صرامة من أجل رفع احتمالات السداد، وبالتالي جودة السندات. ولابد أن تتمتع المنتجات المالية بالشفافية، ولابد من تحجيم العمليات التي تتم خارج دفاتر الموازنة بواسطة تطبيق مستويات مرتفعة من معدل حقوق الملكية/الأصول. وفي المقام الأول من الأهمية، لابد من تقييد مجال العمليات المدعومة. ولأن حقوق الملكية الرأسمالية أعلى كلفة من الديون الرأسمالية فإن البنوك كثيراً ما تعارض ارتفاع معدل حقوق الملكية/الأصول، وهذا هو الأثر اللاذع الذي تستشعره البنوك في تلك المسألة.

ويستطيع صندوق النقد الدولي، أو مجموعة الدول السبع، أو هيئة مشتركة بين الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي، أن يعمل كمنتدى لتقرير القواعد الجديدة التي تحكم عمل أسواق المال، التي تهدف إلى تعزيز كفاءة واستقرار الاقتصاد العالمي. أما وضع القواعد بقرارات أحادية فهو يشكل وصفة مؤكدة لكارثة عالمية، وذلك لأن المنافسة بين الحكومات في توفير المزايا والفرص لقطاعاتها المصرفية من شأنها أن تعود بنا إلى التنظيمات العاجزة نفسها التي أسفرت عن هذا النظام المصرفي المعيب في المقام الأول.

* هانز فيرنر سن | Hans-Werner Sinn ، أستاذ علوم الاقتصاد والتمويل بجامعة ميونيخ، ورئيس معهد Ifo.

«بروجيكت سنديكيت» بالاتفاق مع «الجريدة»

back to top