Ad

إنه التفتيت بعينه... فالشرق الأوسط الجديد المنشود لهو الشرق الأوسط المفتت وفقاً للمعادلات المذهبية والطائفية والعرقية القائمة، وهذا ما يجري في العراق ولبنان، وهو الذي بات يستهدف دولاً عربية أخرى في هذه المنطقة التي غدت بمنزلة سلسلة من كثبان الرمال المتحركة.

قبل حرب الإطاحة بنظام صدام حسين واحتلال العراق تحدث الأميركيون، وهم بقوا يتحدثون حتى فترة سابقة قريبة، عن شرق أوسط جديد غير هذا الشرق الأوسط. وكان الإسرائيليون بعد اتفاقيات «أوسلو» المعروفة وبعد معاهدة «وادي عربة» (1994) الأردنية–الإسرائيلية قد تحدثوا عن مشروع بهذا الخصوص، ولكنهم أعطوه بعداً اقتصادياً وقد عُقدت سلسلة من المؤتمرات التي أُعطيت طابعاً دولياً من أجله.

لكن المعروف أن الحماس لهذا التوجه ما لبث أن دخل مرحلة من الفتور والتراجع، الأمر الذي جعل دولاً معنية، من بينها سورية وإيران ومعهما بعض القوى والتنظيمات السياسية، تشعر بالانتصار، ولذلك فإن هؤلاء جميعاً بادروا إلى رفع شعار أنهم أسقطوا هذه الخطة الأميركية، وأنه لا شرق أوسط غير هذا الشرق الأوسط.

والحقيقة أن واقع الأمور غير هذا .. إذْ إن كل ما هو قائم على الأرض في هذه المنطقة كلها يشير إلى أنه إن لم يكن هناك شرق أوسط جديد قد حل محل الشرق الأوسط القديم، فإن هذا الشرق الأوسط الجديد آخذ في التكون والتبلور، وأن المسألة هي مسألة وقت فقط، وبهذا فإنه غدا بحكم المؤكد أن ما كان قائماً لن يبقى قائماً مهما تشبث به المصابون بحوَل ليس في عيونهم فقط، بل في عقـولهم أيضاً.

إن المؤكد أن عراق الأمس قد ولـَّى بلا رجعة وأن عراقاً جديداً بدأ يحل محله، ليس بالضرورة أنه أفضل منه، وهذا ينطبق على لبنان وعلى سورية وعلى دول عربية أخرى تظن أنها محصَّنة وفي مأمن من هذه العواصف العاتية التي تضرب المنطقة كلها بعنف وبلا رحمة وهذا يشمل دول أفريقيا العربية كما يشمل شقيقاتها في القارة الآسيوية.

لقد ساد اعتقاد، بعد كارثة الحادي عشر من سبتمبر 2001 على خلفية القناعة التي ترسخت لدى الأميركيين ولدى الغرب كله، بأن سبب انفجار الإرهاب والعنف مع بدايات القرن الجديد هو غياب الديموقراطية ووجود أنظمة شمولية «بطريركية»، أقدامها في الألفية الثالثة وعقولها في العصور الوسطى وقبل ذلك... لكن ثبت لهؤلاء، رغم أن تقديراتهم فيها الكثير من الصحة، أن هناك حقائق أخرى تقف وراء الظاهرة الإرهابية لا تقل أهمية عن هذه الحقيقة.

.. وهذا، وبخاصة بعد الفوز الذي حققه بعض تنظيمات الإسلام السياسي في بعض الدول العربية والإسلامية وبعد تجربة «حماس» المخيبة للآمال التي راهن عليها الأميركيون كثيراً، قد جعل هؤلاء يعطون أنفسهم فرصة لالتقاط الأنفاس وإعادة النظر في حساباتهم السابقة؛ فظهرت حكاية «الفوضى الخلاقة» التي أرادوها كمدخل لتفتيت كيانات هذه المنطقة كلها، بما فيها الكيانات التي تعتبر حليفة لهم، لإعادة قوْلبتها من جديد وفقاً لما يخدم أهدافهم البعيدة والقريبة في هذه المنطقة الحساسة.

إنه التفتيت بعينه... فالشرق الأوسط الجديد المنشود لهو الشرق الأوسط المفتت وفقاً للمعادلات المذهبية والطائفية والعرقية القائمة، وهذا ما يجري في العراق ولبنان، وهو الذي بات يستهدف دولاً عربية أخرى في هذه المنطقة التي غدت بمنزلة سلسلة من كثبان الرمال المتحركة. إن هذا هو الشرق الأوسط الجديد، السياسي والاقتصادي، وبات على النائمين الذين يستغرقون في أحلامهم الوردية الجميلة أن يستيقظوا ليروا الحقائق كما هي وليس كما صورتها لهم أحلام اليقظة الخادعة.

على من لا يعرف هذا أن يعرفه فهذه المنطقة كلها .. كلها ومن دون استثناء .. حتى بما في ذلك إسرائيل، ذاهبة إلى التفتيت والتشظي والانقسام فـ «الفوضى الخلاقة» حسب المواصفات الأميركية التي يجري تطبيقها الآن حتى في باكستان لا يمكن أن تعطي حالة أفضل منها... إنها لا يمكن أن تعطي إلا هذا التفتيت الذي بادر الكونغرس الأميركي إلى تأطيره بالنسبة للعراق في هذا القرار الأخير الشائن والمرفوض!!

* كاتب وسياسي أردني