عناصر رؤية عقلانية لمواجهة إسرائيل 2
أربعة عناصر، إذن، لرؤية مختلفة وغير متناقضة ذاتياً للتعاطي مع المشكلة الإسرائيلية: تفادي المواجهة المسلحة مع العدو، عدم تقديم تنازلات أساسية له، التحول نحو البناء الداخلي، ونزع عناصر التوتر من العلاقات العربية البينية. وتبدو لنا هذه الرؤية متسقة ذاتياً. فلا يتناقض أي من عناصرها مع الآخر تناقضاً حاداً، بل لعلها متبادلة الاستدعاء. فتجنب تقديم تنازلات يتناسب مع تفادي المواجهة أكثر مما مع المواجهة (المواجهات المخفقة بالعكس قد تقود إلى تنازلات مؤلمة، مفروضة أو اضطرارية، وإلى تثبت نموذج الدولة الخارجية)، وبالخصوص إن اقترن بتوسيع الملعب الداخلي والتحول نحو الدولة الداخلية. وكذلك يقتضي التحول نحو الداخل نزع العسكرة عن الصراع مع العدو، ويساعد في الوقت نفسه على اجتناب تنازلات مهمة، ويؤسس كما أسلفنا لتحسن العلاقات العربية.
والرؤية هذه واقعية أيضا، بمعنى أنها تنطلق من واقع تدرك عسره وصعوبته، ولا تطرح مطالب تقتضي تغيرات كبرى فورية فيه. ما تطرحه هو الاستناد لهذا الواقع الراهن وصوغ سياسة متماسكة ضمنه. ويقيننا أن هذه السياسة ستقود إلى تعديلات مهمة في معادلاته القائمة شيئاً فشيئاً. وهذا أجدى من سياسات تضع لنفسها أهدافاً كبرى لا تفشل في إنجازها فقط، إنما تغطي بجلبة شعاراتها انحداراً مستمراً كل يوم إلى ما دون ممكنات اليوم الذي سبقه. ولعل من علائم اتساق هذه الرؤية (غير متهافتة أو متناقضة ذاتياً) من جهة، وانسجامها من جهة أخرى (أي غير متصادمة مع الواقع)، أنها تتيح لنا فهم السبب في انحصار خياراتنا اليوم بين رضوخ مرفوض بداهة للعدو، وتحدٍ متعذر أو باهظ الكلفة. أساس ذلك هو الفصل بين الوطنية وتفضيلات السكان العيانيين. تنحاز نظم حكمنا والمنظمات المتطلعة إلى حكمنا والمثقفون الراغبون في أن يُضْحوا مرشدين لحكامنا إلى مفهوم للوطنية يُسْكِنها في الدولة والنخب العليا «العاقلة» لا في الجمهور العام الغافل. فهي تحيل إلى العلاقة مع «الخارج»، الولايات المتحدة وإسرائيل وأوروبا وغيرها، وليس إلى الماء والكهرباء والمدارس والمستوصفات والسكن والمعيشة والقوانين. ولذلك يمكن لنظام يدوس مواطنيه ويذلهم في معاشهم وحقوقهم أن يكون وطنيا، بينما يعتبر خائناً يستحق الرجم، أو السجن، من يدعو إلى قلب الأولويات هذه. نزع الوطنية من المواطنين ومنحها لـ«الدولة» يرد السكان إلى مجتمع رعايا هو مجرد ركيزة لقيام «دولة خارجية»، ويرد الدولة ذاتها إلى سلطة تتلهف للحصول على اعتراف القوى العالمية بها ورعايتها لها. أما منح الأولوية لتفضيلات المواطنين النثريين، لا الأوطان الشعرية، فهو يعني أن ما توافق عليه أكثرية وطنية كبيرة هو وطني حتى لو كان مسالمة إسرائيل. وليس من المستبعد أن يكون. كان أكثر المصريين في سبعينيات القرن الماضي مؤيدين لمسالمة عدو أظهرت الأيام أنهم لا يحبونه ولا يثقون به. ولم يكن هذا توقيعاً على بياض لسياسات السادات كلها، وإن كان هذا الأخير استند إلى جنوح لاشك فيه للمسالمة عند شعبه المجهد من أجل تمرير جملة خيارات متناقضة ما كان يتضمنها الجنوح السلمي ذاك. والحال أن المشترك بين السادات وخصومه «القوميين» في مصر، كما في العالم العربي، هو مفهوم غير ديمقراطي للوطنية، ينزعها من الجمهور «المنثور» ويسكنها في الدولة «المنظومة». ومثل ذلك ينطبق على كل من عباس و«حماس»، وعلى سورية البعثية ومعارضين لنظام حكمها يريدون الديموقراطية كي يصطفوا بجذرية أكبر إلى جانب «حزب الله» و«حماس» و«المقاومة العراقية». أما أصل المطابقة بين الوطنية و«الدولة» فربما يتصل بكون المطابقة هذه تجعل من الولاء للسلطة انتماء للوطن والمعارضة والانشقاق خيانة. أي أنه الخطة الأنسب لحماية سلطة النخب غير المنتخبة وإضعاف مجتمع المحكومين. وما إسرائيل ومواجهة إسرائيل غير أدوات مثل غيرها لإدامة أنماط سلطة امتيازية، وما «الصمود» غير إيديولوجية صمود في الحكم. قد يسلم متشككون باتساق هذه الرؤية، وربما حتى بواقعيتها. لكن ربما يتساءلون: من يُعنى بذلك؟ من سيطبقها؟ كأنما لا ينقصنا إلا رؤى متسقة ومنسجمة! كفانا تنظيراً! ليس لهذا الانتقاد أي قيمة. فأولاً، بلى، تنقصنا رؤى متسقة ومنسجمة، وينقصنا بخاصة «التنظير». ليس لدينا «نظريات» أبداً خلافاً لانطباع شائع يوهم بأنه ليس لدينا غيرها. لدينا عقائد بائتة تعمي النظر بدل أن تفتحه. ولدينا تجريب واقعي بأحط معاني الكلمة، منفصل عن أي مطلب للاتساق. ولدينا «المكْلمة» الخالدة التي تقول كلاماً بخساً يعوض عن الخلو من المعنى باستعراض حرارة الانتماء أو الإيمان. ولعله لدينا أيضاً أفكار وتحليلات قد تكون نبيهة، لكنها مشتتة. وليس لدينا أبداً نظريات بالمعنى القوي للكلمة، تجمع بين وضوح الرؤية ونفاذ التحليل، وتصلح أساساً يمكن أن يبنى عليه اتجاه فكري متكامل. وثانياً، من قال إنه ما إن توجد الرؤى المناسبة حتى تجد قوى اجتماعية وسياسية متأهبة لتطبيقها؟ التقاء رؤية فكرية بقوة اجتماعية مسألة تاريخية وليست منطقية، وهي احتمال وارد وليست حتمية قاسرة. فلنطور رؤانا وتحليلاتنا و«نظرياتنا» ما دمنا، أعني المثقفين، لا نستطيع اليوم فعل شيء آخر. فإن كانت مقارباتنا تلك مخلصة وجديرة بالحياة فقد تحظى ذات يوم بفرص احتضان وتطوير على يد حركات اجتماعية ناهضة.* كاتب سوري