Ad

استشعار أبناء (العوائل) بأن (الآخر) قد استولى على مساحتهم وحصتهم في السلطة والوجود، هو استشعار مرفوض إن كان يدلل على أنهم يظنون أن لهم امتيازاً ما أو أفضلية عمن سواهم بحكم أقدميتهم وارتباطهم بتأسيس الدولة، لكنه يتحول إلى استشعار له وجاهته إن نحن نظرنا بعين المنصف إلى ما يفعله (الآخر) عبر حصوله على هذه المساحة وهذا الوجود المؤثر في السلطة التشريعية.

في أكثر من مرة سمعت هذا السؤال: ما حاجة فلان الفلاني وهو ابن العائلة العريقة وصاحب الوجود الاقتصادي والمالي الثقيل جدا، للمنافسة على عضوية البرلمان؟ ما حاجته لذلك وهو من هو بنفوذه ووصوله وقدراته الكبيرة؟!

وجهت السؤال إلى صديق سأكتفي بالقول إنه فرد من واحدة من أعرق وأثقل هذه العائلات الكويتية، فقلت له ما حاجتكم لهذا الأمر؟ فأجابني بشفافيته المعهودة وبمباشرته الصريحة التي لطالما فاجأتني، قائلا: يا ساجد نحن نشعر بأن دورنا نحن أبناء العوائل في هذا البلد قد تم تحجيمه! أجبته مستغرباً، وكيف ذلك وأنتم المسيطرون على أغلب إن لم يكن كل المفاصل الاقتصادية للبلاد ونفوذكم غير محدود؟ فقال: لقد صار لدينا شعور راسخ بأن مقاليد السلطة التشريعية قد ذهبت إلى غيرنا وغدت تحت وطأة العبث السياسي، مما أدى إلى تهديد مصالح البلاد بأسرها وبالمحصلة تهديد مصالحنا، وصار من اللازم علينا الحرص على إيجاد موطئ قدم لنا على هذه الخريطة!

صاحبي ليس من أهل السياسة بل من المكتفين بالمتابعة من الظل بعيدا عن أي ضوء، وهو كذلك من غير المرتبطين بأي جهة أو تيار سياسي مما يجعل أفكاره تأتي هكذا نقية خالية من شوائب الحسابات المسبقة والارتباط بأي اتجاه، لذلك فإن إجابته على بساطتها قد عنت لي الكثير، وفتحت لي صندوق «عجائب باندورا» جديداً لكثير من التساؤلات والقراءات لواقعنا السياسي. ومن المهم أن أشير هنا بأني لا أمارس هواية تقليب الأفكار وتعليق الأسئلة في هذا العمود الصحفي كما دأبت أخيرا كنشاط عقلي مجرد أملأ به فراغ المساحة، بقدر ما أني أؤمن بأن مثل هذه المواجهات الصريحة وفتح العيون عند الغوص في الواقع مهما كانت ملوحة الماء هو من الخطوات الأساسية والأولى لنا على طريق الوصول إلى المخرج من أزماتنا المتلاحقة.

الكل يعرف أن صناعة الدستور، بل عموم الديموقراطية الكويتية ومفهوم الدولة الحديثة تم في أغلبه على أيدي أبناء هذه العائلات الكويتية العريقة، لذلك فمن الطبيعي والمفهوم، عندي على الأقل، أن يشعر أبناؤها بأن لهم يدا متجذرة في تاريخ الكويت على هذا الصعيد، ومن الطبيعي كذلك أن يمارسوا حقهم في البقاء على خريطة السلطة التشريعية، ويبقى الأمر طبيعيا إن هو بقي في هذا السياق، لكنه سيصطدم عند بعضهم بحقيقة أن الدولة قد تطورت وأن ديموغرافيا المجتمع ما عادت على ما كانت عليه، وأن (الآخر) الذي لا يمتلك نفس العراقة السياسية التي يمتلكها أبناء هذه العائلات قد صار يشكل نسبة لا يستهان بها من الواقع السياسي، بل قد وصل الحال إلى أنه يشكل اليوم الأغلبية السياسية في السلطة التشريعية وفي عموم الحراك السياسي.

هذا الواقع هو نتيجة طبيعية للتطور، ولا أظنه كان خافيا على مؤسسي الدستور وفكرة الدولة الحديثة، بل إن مفهوم الدولة الحديثة يقوم على أن الأصل في الأمور هو المواطنة المتساوية تحت مظلة الدستور والقانون، وأنه لا امتياز لأحد بسبب التبعية لهذه الجماعة أو الطائفة أو الفئة.

استشعار أبناء (العوائل) بأن (الآخر) قد استولى على مساحتهم وحصتهم في السلطة والوجود، هو استشعار مرفوض إن كان بهذه الصورة الفجة المباشرة التي تدلل على أنهم يظنون أن لهم امتيازا ما أو أفضلية عمن سواهم بحكم أقدميتهم وارتباطهم بتأسيس الدولة، لكنه يتحول إلى استشعار له وجاهته إن نحن نظرنا بعين المنصف إلى ما يفعله (الآخر) عبر حصوله على هذه المساحة وهذا الوجود المؤثر في السلطة التشريعية.

إن قيام الكتل القبلية أو الطائفية أو الفئوية، أيا كانت، بتحويل مساحتها في البرلمان إلى مساحة مؤجرة في غالبها، إن لم يكن بالكامل، لخدمة مصالحها وأتباعها والمنتمين إليها على حساب المصلحة العامة لمواطني الدولة، سيؤدي بطبيعة الحال إلى ردة فعل مقابلة عند الآخر وإلى انغلاقه كذلك على نفسه وإلى تحوله من الشأن العام إلى الشأن الخاص، والتفافه على من يشبهونه، ليتحول البرلمان بالنهاية إلى خنادق فئوية متناحرة تعمل ضد بعضها بعضا، وتنشغل بنفسها عن دورها التشريعي والرقابي على السلطة التنفيذية.

إن هذه الجزئية من الصورة، بالإضافة إلى جزئيات واضحة أخرى كالانتخابات القبلية الفرعية واستغلال الجماعات الدينية للقبيلة والالتفاف الطائفي واستغلال المال السياسي وغيرها الكثير، تشكل صورة قاتمة عامة ما هي إلا نتاج مباشر لكون ديموقراطيتنا لاتزال قائمة على الممارسة الفردية وليس على نظام الأحزاب السياسية التي تنضوي تحت مظلة الدستور والبرامج الوطنية، ولا تستند إلى القبيلة أو الطائفة أو الفئة.

من أجل مستقبل أكثر بهاء من الحاضر، كلي أمل أن يتوقف نظامنا عن أسلوب إدارة الكوارث وانتظار نشوء السلبيات حتى يلجأ للمعالجة، وأن يكون مبادرا بدراسة الواقع واستشراف المستقبل والشروع في تطوير الممارسة. كل يوم نتأخر فيه عن القيام بهذا سيزيد الأمر صعوبة وتعقيدا وسيجعل الكلفة لاحقا أضعاف أضعاف ما هي عليه اليوم.

وشكرا لك يا صديقي فمقال اليوم من وحي إجابتك (المباشرة)!