المراجعات التي يقدمها اليوم الرمز الجهادي الكبير «سيد إمام الشريف» هي استكمال لما بدأته مراجعات الجماعة الإسلامية منذ عشر سنوات، ومن ثم نحن أمام تحول في هوية الجماعتين ورؤيتهما لذاتهما وللواقع وللعالم وللأمة وللمرجعية ذاتها، نحن أمام جماعات تعيد تعريف ذاتها من جديد بشكل مختلف عما جرى منذ منتصف السبعينيات، ومن ثم نحن أمام تأسيس جديد لهذه الحركات، هذا التأسيس في تقديرنا يعتمد منطلقات جديدة أيضاً أهمها أن الدعوة وليس القتال هي الوظيفة الرئيسية لعمل تلك الحركات، وأن العمل العلني وليس التنظيمات السرية هو الإطار الحاكم للحركة، وأن العنف ليس سبيلا مناسباً للتعامل مع أوضاع الداخل، فالخبرة الإسلامية كما ذكر «ابن خلدون» تقول «إن الحركات التي خرجت على النظم الداخلية لتصحيحها وإصلاحها لم تحقق أهدافها غالبا وأثارت الفتنة في الأمة»، ومن بين هذه المنطلقات وضع ضابط القدرة في التكليف، فالشاب المسلم ليس مكلفا بما لا يطيقه، فالدين يسر ولن يشاد الدين أحد إلا غلبه، ولا يكلف الله نفساً إلا وسعها، وليس على الضعفاء ولا على المرضى ولا على الذين لا يجدون ما ينفقون حرج إذا نصحوا لله ورسوله ما على المحسنين من سبيل، وأن الأصل في الإنسان من حيث هو إنسان الكرامة والاحترام، ومن ثم القتل على الهوية وعلى لون البشرة والتوسع فيه ليس مذهباً إسلاميا، وكما هو معلوم فإن الانتقال من وضع فكري وحركي إلى وضع جديد خصوصا بالنسبة إلى الجماعات العقيدية ليس أمراً سهلا ولا يسيراً، فهو ولادة محفوفة بالمخاطر والصعوبات، ولن تحصل هذه المحاولة الضخمة لإرساء هوية وإدراك وفهم جديد للذات والعالم والواقع والمجتمع والنظام السياسي من دون منازعات ومخالفات وربما خصومات وتحفظات، هذا متوقع، ولذا فإن الأصوات الممانعة لا يجب قمعها بل نستمع إليها، فيكفي المراجعات أن تؤسس لتيار رئيسي داخل الحالة الجهادية والإسلامية في مصر والعالم بحيث تكون أفكارها هي التعبير عن القلب والمركز، وانها المعبر عن الوسطية والشرعية في مواجهة تلك الأصوات المتحفظة التي يجب أن يدار معها حوار فكري واسع ينقلهم إلى التيار الرئيسي والمجرى العام بعيداً عن هوامش التطرف والغلو والأفكار القديمة.

Ad

إن مراجعات «سيد إمام» تؤسس لما يمكن أن نطلق عليه «فرصة ثقافية» هذه الفرصة الثقافية تعيد النظر من جديد في المنطلقات وتفسح المجال للأفكار الجديدة لتبني لذاتها شرعية خاصة بالنسبة إلى الأجيال القديمة، إن أحد أهم الوجوه التي ترسمها مراجعات الجهاد لذاتها وللحركة الإسلامية بوجه عام أنها تعبير عن يسر الإسلام وبساطته وانه جاء هداية للناس وترغيباً وليس قتلا وإخافة ورعبا، وفي ظل السياق السياسي الذي تعيشه الأمة الإسلامية سنجد أصواتا قديمة فلندعها ترفض ونبني معها حواراً عن أفكارها، وحتى إذا بقيت كما تريد فليكن، فإن اتساع التيار الرئيسي وبناء حالة فكرية عامة سوف يضع تلك الأصوات في مكانها وحجمها الحقيقي، إننا أمة التعددية الفكرية والفقهية التي لم تقمع صوتا ولكنها حاورته وناقشته، وظل وعي الأمة العام حاميا لها من أصوات النشاز على الحواف والهوامش.

من الطبيعي أن تثير الوثيقة بعد نشرها بالكامل جدلا بين كل المشتغلين بالعمل العام ومن جميع التيارات، وكل له الحق في أن يطرح ما يريد ويسأل عما يريد، ومن المتوقع أن تكون هناك أصوات داخل الحالة الجهادية لها تحفظاتها ولها دهشتها ولها تساؤلاتها التي لم تحسم بعد بشكل كامل، وهذه الأصوات يؤخذ كل منها بالطريقة التي تناسبه والتي تعتمد الحوار سبيلا وحيدا للوصول إلى بناء حالة من تيار رئيسي متوافق وجامع ولكنه ليس بالضرورة تعبيراً عن حالة إجماع.

المسائل المجمع عليها في الفقه الإسلامي قليلة بالنسبة إلى المسائل المختلف فيها، ومن هنا كانت التعددية الفقهية والفكرية، ومن ثم لا يجب أن نفزع إذا كانت هناك أصوات مخالفة ومختلفة، فمع الحوار والجدل تتحول هذه الأصوات ناحية التيار الرئيسي الجامع.

التيار الرئيسي الجامع وليس الإجماع هو المطلوب للمراجعات أن تحققه، وذلك حتى يكون لها شرعيتها وصدقيتها، ولعل المراجعات تقود إلى حالة لحوار حقيقي فعال وشفاف وجاد يقود إلى سماع كل الأصوات والتعرف على كل المخبوء في الضمائر، نريد سماع كل الأصوات والمكنونات حتى نصل بحق إلى مراجعات لها صدقية تبني تياراً رئيسياً جامعاً وفاعلاً قادراً على لمّ شتات كل الأصوات المبعثرة الهائمة في بيداء فقدان المرجعية، المراجعات مرجعية جدية لبناء تيار رئيسي حقيقي، ولا يخيفنا أو يهزنا أن تكون هناك أصوات مخالفة فتلك طبيعة فقهنا وتكويننا الاجتماعي والديني والثقافي، إنها خبرة الدين الإسلامي التي قالت «إن هذا الدين يُسر ولن يشاد الدين أحد إلا غلبه».