كنا نظن أن دروس الغزو والأسر قد تم إدراكها، فما لبثنا أن أدركنا أن تلك لم تكن إلا أمنيات ملقاة على قارعة الطريق. رحلة شاقة سرناها على الأقدام لنصل إلى الوطن ونكتشف أن أمنياتنا لم تكن إلا أضغاث أحلام، وها نحن كمجتمع نكاد نغرق في «شبر مية» بعد مضي 17عاماً مما كنا نحلم به وطناً جديداً.في مثل هذا اليوم، أو ربما مثل هذه الأيام من عام 1991، أصدر مجلس قيادة الثورة «ربما إشارة إلى أنثى الثور»، قراراً باعتقال كل كويتي ما بين عمر الـ15 إلى الـ45 عاماً على أن يتم نقله من الكويت إلى أقرب نقطة في القطر... ذلك كان ما جاء نصاً في وثيقة تركها الغزاة الذين اختفوا بعدها كالأشياء الزائفة... فروا شمالاً على عجل كما جاؤوا على عجل.
في مثل هذا اليوم، تم تطبيق ذلك القرار «الثوري» اللئيم علينا نحن، الذين كان «ذنبنا» الوحيد أننا كنا مواطنين كويتيين قررنا البقاء في بلادنا والصمود في وجه المحتل بغبائه وصلفه وغرور قيادته، لم يفرق الغزاة حينها بين كويتي وآخر أياً كان ذلك الكويتي وأياً كانت انتماءاته ومذهبه وملته.
كانت الحرب الجوية قد مضى عليها ما زاد على الشهر، والسماء قد تحولت إلى دخان أسود بعد حرق «القائد الضرورة» لآبار النفط، ودخلت حياتنا إلى حالة من الترقب والتحولات الاجتماعية والنفسية، وقلّت الحركة في الشارع ولزم أغلبية الناس بيوتهم أو محيطهم الجغرافي الصغير.
كنا حينها أنا وسعود العنزي نسعى في الأرض نقود دراجتينا اللتين كانتا رمزين من رموز الصمود، فقد تحولنا من قيادة السيارات كإشارات للعصيان المدني بسبب رفضنا تركيب لوحات السيارات العراقية، وشيئاً فشيئاً تحولت الكويت إلى صين أخرى من كثرة استخدامها للدراجات.
كنا قد وضعنا مضخة مياه للتجول على بيوت انقطعت عنها المياه في منطقة خيطان، ثم قررنا الذهاب إلى منطقة الرقعي لتفقد أحوال صديق لنا، وهو الشاعر السوداني علي عبدالقيوم (رحمه الله)، وعلى مدخل الرقعي أوقفتنا دورية سيارة للمخابرات العراقية، وقاموا باعتقالنا ونقلونا إلى مخفر الرابية حيث وجدنا عدداً كبيراً من الكويتيين في ذلك المخفر، ووجدت هناك مثلاً الصديق مظفر العوضي الذي كان يتحلطم لأنه تم اعتقاله بسبب خروجه لشراء «نشا». ووجدنا مجموعة من الشباب الصغار معنا بملابسهم الرياضية، ولما سألتهم عن سبب اعتقالهم رد أحدهم بكل عفوية إننا كنا نلعب كرة قدم مع شرطة مخفر الرابية، وعندما هزمناهم قاموا باعتقالنا، ثم تابع بالعفوية نفسها: «لو كنا ندري لخليناهم يغلبونا، بس ما كنا ندري».
ثم تلا ذلك مسلسل من المواقف والمفارقات والتنقل المكرر من مكان إلى مكان محشورين كالحذاء الضيق، وإضاعة الطريق حتى استقرت بنا الحال في سجن الأحداث، ثم نقلونا عبر طريق الصبية ليلاً إلى معتقل في شمال البصرة يطلق عليه «أبو صخير». كانت الكويت كلها هناك... بتلاوينها وانتماءاتها وأعمارها وتوجهاتها وأفكارها كافة، تعلمت من تلك التجربة دروساً كثيرة سواء في الغزو والاحتلال عموماً، أو في تجربة السجن تحديداً، ومع أني لا أحب الحديث عن تلك الحقبة، فإنها تفرض نفسها أحياناً، وربما نفصل فيها لاحقاً.
وحين عدنا إلى الوطن المهشم المحرر، كنا في أعلى درجات الشوق والحماس لإعادة بنائه، أو على الأقل المساهمة على أسس وطنية، إنسانية، دستورية.
كنا نظن أن الدروس قد تم إدراكها، فما لبثنا أن أدركنا أن تلك لم تكن إلا أمنيات ملقاة على قارعة الطريق. رحلة شاقة سرناها على الأقدام لنصل إلى الوطن ونكتشف أن أمنياتنا لم تكن إلا أضغاث أحلام.
وها نحن كمجتمع نكاد نغرق في «شبر مية» بعد مضي 17عاماً مما كنا نحلم به وطناً جديداً، لتكشف لنا حادثة مغنية عن حالة ذهنية يائسة، على استعداد لتدمير الوطن والإجهاز عليه جملة وتفصيلاً.
ولا أظنني مبالغاً إن قلت إن آلاف الأسرى الذين عادوا إلى الوطن، بمن فيهم الـ1182 أسيراً (توفي منهم واحد قبل الإفراج عنا بأيام) من أبوصخير، والشهداء الذين قدموا حياتهم دفاعاً عنه، لم يكن في ذهنهم أننا قد نصل إلى حالة التشرذم التي وصلنا إليها.
وحيث إن الحال قد أصبحت كذلك، فقد آن أوان انتشال الوطن وإعادة ترميمه، على أسس وطنية حقيقية.
أما آن لنا أن نعود ياسعود؟!