إن المشكلة الصحراوية تخفي، في حقيقة الأمر، مواجهة بين الجزائر والمغرب، تتجاوز بكثير مجرد صراع النفوذ بمعناه التقليدي، بين بلدين يطمح كل منهما إلى تحقيق غلبة إقليمية، لتستوي، صراعاً من قبيل وجودي، بين كيانية تستشعر غبناً، وأخرى تستشعر خوف الكيانات الهشة.هذه المرة، مع دعوة المغرب الجزائرَ إلى فتح الحدود بين البلدين (وهي موصدة منذ سنة 1994) وإلى «تطبيع» العلاقات بينهما، اضطلع الأول بدور الطرف المهادن، المعتدل، الراغب في وفاق، في حين تولت الثانية، التي صدّت مقترح البلد الجار و«الشقيق» صداً مبرماً، دور المتشدد الرافض الصّام أذنيه عن دعوات الحوار.
بطبيعة الحال، لا ثبات على أي من ذينك الموقعين بين الطرفين، فهما يتبادلان التشدد أو الاعتدال ويتناوبان عليه، بدافع الإحراج أو إقامة الحجة، بحيث لا يكادان «يتفقان» إلا على أمر واحد: ألا يتصادف اعتدالان من قبلهما ولا يتزامنان، مع ما قد يترتب عليهما، لا سمح الله، من حل قد يُصار إلى التوصل إليه أو يُشرع فيه.
ذلك أن الحل بين البلدين المغاربيين الكبيرين في حكم المتعذر ويجب أن يبقى على تعذره ذاك، بحيث لا تعدو المشكلة الصحراوية أن تكون ذريعة ذلك التعذر وأداته، حتى أنها لو لم توجد لبادرا إلى اختلاقها وافتعالها، وذلك، على أي حال، ما حصل تقريبا.
فاستعصاء تلك المشكلة ليس فيها وليس منها، إن جازت العبارة، بل هو ظل وصدى لاستعصاء أعمق منها وأبعد مدى، بالغ التعقيد، متعلق بنظرة كل من الطرفين إلى ذاته، كيانا، وإلى الآخر، الصنو-الخصم، نافيا لذلك الكيان أو مهددا بنفيه. وإذا ما نظرنا إلى الأمور من زاوية التناول هذه، أمكننا القول إن المشكلة الصحراوية قد تمثل حاجة لدى البلدين، وفي العلاقة بينهما، لا عبئا على تلك العلاقة، خصوصا أنها تمكنهما من الإبقاء على توتر، هو بينهما ضروري أو يريانه كذلك، مع التحكم فيه ولجم انزلاقاته المحتملة نحو مواجهة ثنائية مفتوحة لا يبدو أن أيا من الطرفين يرغب فيها، وقد تحقق لهما ذلك باعتمادهما «لاعبا» ثالثا أي الصحراويون الذين تراهم الجزائر شعبا قمينا بالظفر بالحق في تقرير المصير ويعتبرهم المغرب جزءاً منه لا يتجزأ، وحيزا ثالثا هو الصحراء الغربية أرضا في وضع ملتبس، معلقة بين الاستقلال وانعدامه. كأنما البلدين اخترعا، بواسطة المشكلة الصحراوية صيغة من حرب باردة بينهما، لها، كصنوتها الكبرى البائدة، من الحرب وظيفتها كتعبير عن صراع لا تفي الوسائل السياسية والدبلوماسية بتذليله، في حين تتولى «برودتها» درء مخاطرها القصوى.
أما مأتى ذلك التوتر الأصلي بين البلدين، والذي تضطلع المشكلة الصحراوية، على نحو ليس بالحصري طبعا ولكنه الأكثر دراماتيكية بالتأكيد، بوظيفة تجسيده والتعبير عنه، فربما تمثل في نقص يستشعره البلدان في كيانيتهما، التي يريانها غير ناجزة، ويتبادلان التحدي، بقوة الأشياء وبمنطقها، في مضماره (النقص).
صحيح أن هناك اختلافا فارقا بين الجزائر والمغرب في ذلك الشأن الكياني. فالمملكة المغربية، التي كان الغربيون حتى بدايات القرن العشرين المنصرم يطلقون عليها اسم «الإمبراطورية الشريفية»، كيان تاريخي ضارب في القدم، تعرض خلال الحقبة الاستعمارية إلى تجزيء ضارٍ، إذ اقتسمته إسبانيا، التي احتلت شماله، وفرنسا التي سيطرت على ما تبقّى مما يشكل اليوم المغرب الحديث. غير أن المغاربة يعتبرون أن الأمر لم يتوقف عند ذلك الحد، وأن الفترة الاستعمارية قد سلبتهم أراضي لم تُستعد، وهم لا يعنون بذلك فقط منطقتي سبتة ومليلية اللتين لا تزالان تحت السيادة الإسبانية، بل كذلك موريتانيا، والصحراء الغربية طبعا، ومناطق شاسعة أخرى، ألحقتها فرنسا بالجزائر. بعبارة أخرى، يرى المغاربة أن حصولهم على الاستقلال مكّنهم من استعادة السيادة ولكن ليس من استعادة كيانهم التاريخي، ومن هنا الأهمية التي تُحظى بها لديهم المشكلة الصحراوية، بوصفها في نظرهم فصلا من صراع وطني، أو بالأحرى، كياني لم يكتمل ولم يضع أوزاره مع نيل المملكة استقلالها، وهي لذلك بالنسبة إليهم أمر لا يكاد يحتمل المساومة.
أما الجزائر، فهي كيان مستحدث لم يكن له من وجود تاريخي، نشأ في مقارعة الاستعمار ونتج عنها، وهي لذلك كيان هش، ومن هنا حرصها الشديد على احترام الحدود (الوطنية) الموروثة عن الحقبة الاستعمارية، هو ما تراه مبدأ ناظما، لأنه علة وجودها (أقله من الناحية القانونية)، للحياة الدولية وللعلاقات بين الأمم. وهي لذلك ترى في اعتراض المغرب على ذلك المبدأ، من خلال إقامته على رفض التجزئة التي تعرض إليها، اعتراضا على وجودها، في نهاية مطافه وفي مؤداه الأخير، وعلى شرعية ذلك الوجود أو هو مسعى إلى نسف قانونيته.
ومن هنا، فإن المشكلة الصحراوية تخفي، في حقيقة الأمر، مواجهة بين الجزائر والمغرب، تتجاوز بكثير مجرد صراع النفوذ بمعناه التقليدي، بين بلدين يطمح كل منهما إلى تحقيق غلبة إقليمية، لتستوي أيضا، بل في المقام الأول ربما، صراعا من قبيل وجودي، بين كيانية تستشعر غبنا، لأنها لم تستعد مجالها التاريخي، وأخرى تستشعر خوف الكيانات الهشة والتي لمّا يصلب عودها.
وهنا مكمن استعصاء المشكلة الصحراوية.
* كاتب تونسي