الفايز والمحيلان
كنت قد ذكرت في الحلقة السابقة، أن عبدالله المحيلان أبدع في تصوير وإخراج فيلم سينمائي عن الثورة الأريترية، التي كانت تدعو إلى الاستقلال عن الحبشة أواسط السبعينيات. بالإضافة إلى الفيلم، كان المحيلان قد غامر أيضاً بتصوير وإخراج ديوان الشاعر محمد الفايز - يرحمه الله - «مذكرات بحار»، وحوّله إلى مشاهد بالصوت والصورة والموسيقى على الشاشة في تلفزيون الكويت، ما أثار دهشة المشاهدين الذين لم يتعودوا أو يسمعوا هكذا مغامرة يقوم بها مبدع كويتي بارع، وما دام الشيء بالشيء يذكر، فإنني لا أنسى في هذا الصدد مبدعا كويتيا آخر كان من حسن حظ الإعلام الكويتي - آنذاك - أن يكون على رأس أخطر جهاز إعلامي في الدولة، ألا وهو تلفزيون الكويت، وأعني بذلك الصديق الكبير محمد السنعوسي، الذي كان هو الآخر أول مدير تلفزيون عربي لا يقف خلف الكاميرا، بل أمامها في برامجه الشعبية الشهيرة التي تلقى صدى وقبولاً لدى المجتمع الكويتي، بل وتحل مشاكله. وقد ذهب السنعوسي أبعد من ذلك، حينما أكمل ما أوقفه عبد الله المحيلان في (سَينمة) مذكرات بحار، نظراً لخلاف عبد الله المحيلان مع التلفزيون - آنذاك - على الرغم من أنني أذكر جيداً، وهذا موقف رائع لمدير التلفزيون – السنعوسي، أن يزور عبد الله المحيلان في شقته الصغيرة في حولّي ويرجوه أن يكمل أعماله المبدعة ويستمر في تعامله مع التلفزيون، لأن خروجه أو انقطاعه يعتبر خسارة فنية للوطن، وقد عاد عبد الله بعد ذلك بفكرة أشد صعوبة وغرابة وتعقيداً من عمله الأول (مذكرات بحار)؛ إذ راهن أن يقوم بعمل فيلم خاص بقصيدتي «توجسات في الزمن الفاسد»، وقد وافق وزير الإعلام الراحل - يرحمه الله - الشيخ جابر العلي، الذي كان يشجع المبدعين والإبداع دائماً، على عمل «الفيلم - القصيدة»، وأمر التلفزيون بأن يجهز لعبد الله المحيلان كل ما يريد، وبالفعل تهيأ لعبد الله كل الطواقم الفنية لتكون تحت تصرفه في إنجاز هذا «العمل - التحدي»، وقد شرع عبد الله - كما اعتقد - بالبدء في أخذ المشاهد الأولى، لكن أحد أولياء وزارة الإعلام - آنذاك - همس في أذن الشيخ المرحوم جابر العلي بأن هذا العمل يكلف وزارة الإعلام مبالغ هائلة، وكل ذلك من أجل قصيدة لا تتعدى صفحتين (!!)، وهي مليئة بالطلاسم والكوابيس «إنها يا طويل العمر مجرد هذيان شاعر مجنون يريد أن ينقله إلى الواقع مخرج (أجن) منه!!»، ثم لا أعرف كيف ألغيت تلك المغامرة المحيلانية المدهشة - لو حدثت بالفعل!! انقطع عبد الله المحيلان عن العمل والتعامل مع تلفزيون الكويت لفترة طويلة، وأصبح يقضي وقته بين شقته الصغيرة في حولّي وشاليه العائلة، وكنت كلما زرته أجده مشغولاً بحب جديد أو هواية جديدة تتعلق بالبحر على وجه التحديد، وذات مرة كنت أجالسه في ليلة قمراء على حافة البحر، وكنا نمدّ أرجلنا في الماء ونتحدث عن الفن والشعر وهموم الوطن التي يوليها عبد الله جلّ اهتمامه، لأن عبد الله «كويتي للنخاع»، ويحب كل ذرة رمل من تراب الكويت ويغار عليها، وبينما كنت أترنّم بقصيدة للشاعر الراحل محمد الفايز يقول مطلعها «البحر أجمل ما يكون لو لا شعوري بالضياع»، صرخ عبد الله صرخة مدوية سمعها أصدقاؤنا الذين كانوا يلعبون «الجنجفة» في الشاليه، ثم سحب رجله من الماء وراح يعرج وهو يصرخ «فريالة، فريالة»، وكنت أسخر منه وأضحك «ما بها فريال... هل ماتت؟!»، إذ كنت أظن أنها إحدى صديقاته، وأضفت: «عساك تلحقها!!»، ولم ألقَ له بالاً بينما هرع أخوه الدكتور عبد الرحمن وحمله إلى الشاليه، وكانت كل ساق من ساقيه تنتفخ شيئاً فشيئاً كالبالون، ولم أفهم السبب بعد إلا حينما أفهمني الدكتور أن عبد الله تعرض إلى لدغة سمكة سامه اسمها (الفريالة!!)، وهنا خجلت من سخريتي اللامبررة في هذا الموقف تجاه صديق ربما كان سيموت لولا وجود من يعرف خطر لدغة الفريالة، لأنني لم أسمع قط أن ثمة سمكة سامة كالأفعى تعيش في البحر؛ لذا نقلنا عبد الله إلى مستوصف الزور، الذي أحاله بدوره إلى أحد المستشفيات، إلى أن شفاه الله بعد أيام طويلة من ذلك الحادث المشؤوم.
توابل - ثقافات
السيرة الذاتية لطائر الصحراء - 21
12-03-2008