Ad

إلى حين كتابة هذه الأسطر، فإن بوابة السباق نحو الخراب مازالت مفتوحة على مختلف الاحتمالات السيئة والجيدة، مع الإشارة إلى ترجيح كفة ميشال إده كمرشح محتمل لإغلاق هذه البوابة البائسة.

فـُرِزَت أوراق اللاعبين في الساحة السياسية اللبنانية، إذ أصبح بالإمكان تحديد مسار المعركة، وبالتالي مصير لبنان السياسي وربما الجغرافي معاً، فالشروط التي وضعها أمين عام حزب الله السيد حسن نصرالله، في خطابه الأخير في 11/11، قد خلقت جواً من الوضوح في الرؤية، بصرف النظر عن لونها التفاؤلي أو التشاؤمي، وأعطت المعركة وجهة سير محددة من الصعب جداً على الفريق الآخر أن يقبل بها كحلّ متكامل غير قابل للتجزئة والمناورة، ولعلّ السيد حسن قد اختار هذا الوقت بالذات، عن سابق تصوّر وتصميم، والبلاد على مسافة قصيرة من الاستحقاق الرئاسي، حتى يقطع الطريق على محاولات اللف والدوران في حلقة مفرغة، وكذلك يضع خارطة طريق لسير التدخلات الإقليمية والدولية، مع أنه كان باستطاعته أن يطرح رؤيته هذه في شهر يوليو الماضي، ويُفسح مزيداً من الوقت أمام سعاة الخير للأخذ والرد ومحاولة الوصول إلى الحل الدائم أو التسوية الموقتة، لكن السيد حسن سارع إلى وضع «شروط المسكوب» -كما يقال- فوضع «فيتو» على استمرار حكومة السنيورة لملء الفراغ الدستوري في حال عدم انتخاب رئيس جديد للجمهورية، وشمل هذا «الفيتو» شخص السنيورة بالذات في تسلّم أي منصب وزاري في المستقبل، داعياً إلى تشكيل حكومة إنقاذ وإجراء انتخابات نيابية قريبة تقرر نتائجها شخصية الرئيس القادم. أكثر من ذلك، فإن السيد حسن وجه قذيفة من العيار الثقيل إلى الموالاة عندما ختم خطابه بمناشدة الرئيس إميل لحود أن يتحمّل مسؤولياته التاريخية، وألا يضيع ماضيه المشرّف الذي سجّله له التاريخ بمستقبل غير مضمون، وألا ينسف كل ما بناه طيلة ولايته الطويلة، في قيادة الجيش أو في رئاسة الجمهورية. وبحركة دراماتيكية مدروسة قال موجهاً كلامه إلى الأكثرية النيابية، من خلال رسالته إلى إميل لحود، طالباً منه ألا يسلّم البلاد إلى «عصابة من اللصوص والقتلة من أتباع المشروع الأميركي الصهيوني». وبهذا، يكون السيد حسن، مرة ثانية، وعن سابق تصوّر وتصميم، قد نسف الجسور مع الأكثرية النيابية، بالرغم من قوله التكتيكي إنه مازال يدعم رئيساً توافقياً. فكيف باستطاعة السيد حسن أن يجلس على طاولة واحدة مع من أسماهم بالقتلة واللصوص والتبعية لواشنطن وتل أبيب؟

لا يختلف اثنان أن السيد حسن بخطابه في 11/11 قد أطلق الرصاصة الأولى في السباق نحو الخراب، كذلك لا يختلف اثنان على أن معطيات المعركة في لبنان، ذات الأبعاد الإقليمية والدولية، قد دفعته إلى هذا الموقف. فالحالة، بالنسبة له ولحلفائه، باتت تشكل مفترق طريق وعر وصعب، إذا لم نقل إنها أصبحت قضية حياة أو موت بالنسبة للمنهج المقاوم. والسيد حسن، كما يعرف الجميع، يمكن وضعه في رأس قائمة الاستشهاديين، وقد أثبت ذلك منذ العام 1982، وثقافة الاستشهاد باتت العنوان البارز في كل تحركاته السياسية والأيديولوجية حاضراً ومستقبلاً.

لقد حاصر السيد حسن حليفه القديم، رئيس الجمهورية، إميل لحود ووضعه أمام خيارين: إما الإقدام على تسليم مقدّرات البلاد إلى السلطة العسكرية في الساعات الأخيرة من ولايته، وإما دخول التاريخ كمسؤول عما يمكن أن يحدث من تداعيات، ولهذا الحصار خلفياته التي باتت تفاصيلها معروفة على نطاق ضيق، ففي شهر يوليو الماضي، استدعى الرئيس لحود، رئيس مجلس النواب نبيه بري وطرح عليه استراتيجية العمل للخلاص من سيطرة الأكثرية بـ«الضربة القاضية». ورأى لحود أن تبدأ المعارضة في تهيئة الأجواء لطرد حكومة فؤاد السنيورة من السراي، بحيث لا يأتي شهر أغسطس إلا ويكون السنيورة ووزراء حكومته «اللاشرعيون» خارج الحكم، أو خارج البلاد لا فرق.

وشرح رئيس الجمهورية لرئيس المجلس وجهة نظره القائلة: إن الأكثرية لم تستكمل بعد استعدادها لانتخاب رئيس جديد، أو الإبقاء على حكومة السنيورة في حال تعذّر الانتخاب لاستلام ما تبقى من صلاحيات رئاسة الجمهورية والسيطرة على المحاور الثلاثة لصناعة القرار السياسي في لبنان. وقال لحود لبري ما معناه: إن الأكثرية ستلجأ إلى تجنيد الشرعية الدولية، وتضيفها إلى ما تملكه الآن من شرعية ممثلة بالأكثرية البرلمانية، وعلينا أن نجهض جهودنا اليوم لا غداً، لأن عدم القيام بأي حركة إجهاضية سيعطيها الوقت والمجال لاستكمال استعداداتها قبل حلول انتهاء المهلة الدستورية لولايته.

ويقال إن لحود قال لبري: إن التحرك في شهر يوليو أكثر سهولة من شهر أغسطس، وسوف يزداد صعوبة شهراً بعد شهر بحيث نصبح في مواجهة حالة صعبة قد لا نستطيع معالجتها في الربع الساعة الأخير من انتهاء ولايتي، لذلك أنا لا أنصح، بل أطلب، أن نبدأ بالتحرك الآن ضمن مفهوم خطة استراتيجية سياسية-عسكرية-شعبية، وقد وضعت الخطوط العريضة لهذه الخطة.

بالطبع لم يكن بمقدور الرئيس بري أن يعطي الضوء الأخضر للرئيس لحود قبل العودة إلى حلفائه، خصوصاً السيد حسن نصرالله والعماد ميشال عون، وبالرغم من إلحاح لحود، فإن جواب حلفائه كان سلبياً بعد أن اعتنقوا استراتيجية التريث لدفع الموالاة إلى ارتكاب «خطيئة» ضد الدستور بانتخاب النصف زائد واحد، أو استلام حكومة السنيورة صلاحيات رئاسة الجمهورية. كذلك فإن بري وعدداً من قيادة المعارضة كانوا ومازالوا مقتنعين بوجود أمل في الوصول إلى تفاهم مع الأكثرية خصوصاً مع سعد الحريري للخروج من المأزق.

وعندما تبلغ لحود الجواب النهائي قال لهم ما معناه: ستندمون. ولكن عندما تأتون إليّ بطلب تنفيذ ما أعرضه عليكم اليوم سيكون الوقت قد فات... وقد أرفض، وقد أقبل. موقفي سأتخذه في ضوء الظروف المستجدة في ذلك الوقت.

منذ ذلك الحين ارتكبت المعارضة «خطيئة» تجاهل الرئيس لحود وامتنعت إلى حد ما عن الاتصال به، حرصاً على عدم إثارته. وفسّر لحود ذلك بأن المعارضة تسعى إلى تهميشه، فازداد غضباً واتهم في بعض مقابلاته الخاصة، المعارضة بأنها ليست على مستوى المعركة «وأنهم أحرار في ما يفعلون» وكذلك «أنا». لم تنتبه المعارضة إلى خطيئتها إلا في بداية هذا الشهر عندما تأكد لها أن الموالاة ملكت ناصية الشرعية الدولية، وأن حوارات التوافق ليست أكثر من سياسة «تضييع الوقت» مارستها الموالاة بنجاح، وأن الرئيس لحود كان بعيد النظر بطروحه وطلبه التحرك في شهر يوليو أو أغسطس. ولإصلاح خطئها بدأت المعارضة بفتح طريق عودتها إلى عقل وقلب إميل لحود، لاسيما بعد أن أصبح يمثل الركيزة الأساسية في منع الموالاة من السيطرة على الحكم، وتقاطرت وفود الدرجة الثانية من المعارضة إلى القصر الجمهوري، ثم تبعتها اتصالات الدرجة الأولى، وكان جواب لحود: عندما يحين الحين لن أتصرف إلا بما يمليه ضميري، وهي جملة مبهمة قد تعني كل شيء ولا تعني شيئاً... وليس باستطاعة المعارضة أن تبني خطة معركتها على شيء لا تعرفه على حقيقته مئة في المئة، أو على معطيات نصف مؤكدة، وكانت الخاتمة بمناشدة السيد حسن نصرالله العلنية، وبالرغم من ذلك فإن المعارضة، إلى حين كتابة هذه الأسطر، لاتزال غير واثقة من الموقف الذي سوف يتخذه إميل لحود في اللحظات الأخيرة.

مرة أخرى، لا يختلف اثنان على أن المعارضة لاتزال تملك قلب الرئيس إميل لحود. لكنها غير واثقة من امتلاك عقله. لاسيما بعد أن انهالت عليه الضغوط من كل حدب وصوب ومن كل عاصمة عربية وغربية، كذلك لا يختلف اثنان على أن إميل لحود يملك اليوم وإلى حين انتهاء ولايته مفتاح ميدان السباق اللبناني نحو… الخراب.

* كاتب لبناني