أي مدهش؟
«الإنسان الذي يفقد قدرته على الدهشة، يفقد حماسه للحياة، ورغبته في إثراء معارفه وتجاربه الإنسانية، وتتجمد مشاعره، ولا يعود صالحاً لشيء إلا للموت». الشعر هو الدهشة... هكذا كنت قد قررت بصلافة! ويلوح على البال / اللوح، بيان السرياليين الأول، كما قيل، عام 1924، فجر أحد صباحاته، لمن تهمه الدقة أو بطاقة هويتهم، التي أشهروها حينذاك: «المدهش جميل، أي مدهش جميل، لا جميل إلا المدهش»، والقصيدة التي لا تدهشك، تكون قد وقفت معوقة من دونك بمسافات طويلة، لأنها كما في مفكرتي المترهلة مُفرغة من قدرتها على الاستحواذ على مكامن الدهشة فيك، وكنت قد كتبت ذلك قبل سنوات، بأننا نندهش من غيمة... تظل تجود بالمطر إلى آخر حدود الظمأ، هكذا كنت رومانسياً مرتّباً، وهذه الأخيرة، عند الحماقة القصوى، تتمنطق وتنطق: مر التبن! ولكننا أبداً لا نندهش... من حالة «صحو»، عندما يكون وجه السماء الأزرق مفرغاً من قصائده البيضاء. وكنت دائماً ويا للفضيحة أفكر بأن الدهشة قوة، وهي لا تأتي من حال عادية أو عامة، تماماً كما قالت الـ دائماً غادة أستاذتي في علم الخيال، ومخربة علاقاتي بالنساء، إذ كنت أريدهن على مقاسها غادة السمان: «كالزلزال، لا يطالب بتأشيرة دخول، وكالولادة، مستحيل اعتراض سبيلها»، وكان ذلك ضمن حديث لها عن الإبداع... و»الإبداع في حاجة الى الدهشة، والطفل وحده يعرف كيف يندهش»، هكذا هي عبارة ريمون جبارة، المدونة في مفكرة قديمة لدي بخطي الجميل سابقاً، يحمل غلافها نكتة عنوانها: «سحابات صغيرة»، ولا أذكر لماذا اسبقتها بسؤال «كيف أندهش؟!» ترقيعاً لسذاجته: حدث ذلك قبل اختراع التقبيل والديجتال، لكني سجلت، إمعاناً، في نفس الصفحة قولا لعبدالوهاب مطاوع، هو: «الإنسان الذي يفقد قدرته على الدهشة، يفقد حماسه للحياة، ورغبته في إثراء معارفه وتجاربه الإنسانية، وتتجمد مشاعره، ولا يعود صالحاً لشيء إلا للموت»، وهو نفسه من نقلت عنه بصياغة أخرى: «الدهشة بداية الطريق للمعرفة... ووقود الحماس لمعرفة الأشياء والحياة»، وهذا القول وذاك، هما ما دشنا التساؤل التالي في ذهني، أمس، ربما، أملس:أمن الممكن أن توجد قصيدة تجسد ماهيتي الشعر والإبداع معاً، ومع ذلك لا تجد من تستطيع أن تدهشه؟! وأفكر الآن، نعم... نعم مازلت، داخل قلعة الدماغ إياها، فماذا لو تجرأ شاعر مغامر، وألقى تلك القصيدة على جمهور كرة قدم كبير، شاخصة أبصاره إلى ما تدور ويدور على المستطيل الأخضر، وقد حضر كل ذلك الجمهور من أجل مشاهدة المدوَّرة وما يدور؟... ذلك الجمهور يتزايد، دائماً متعودة في ملعب الحياة الكبير... ولم يعد أغلبه، في رأيي، يتقبل المدهش، ولا يطيقه... ولا قادر على أن يندهش ولا يريد أن يندهش اصلاً، ولأنه يريد أن يتخلص من دماغه يريد أن يلهو فقط، أن يتسلى ويضحك ويرقص، خليّك في الجو في كل مكان ووقت. وعلى الشعر، أن ينسى ذلك القول الجاحظي الغابر: «يصنع الشعر البليغ في القلوب صنع الغيث في التربة الكريمة»، فقد لحق به بيان السرياليين أعلاه... على الشعر... إن أراد أن يتقبله، ويقبل عليه، ويقبلّه أي جمهور كبير، في أمسيات، حفلات، مهرجانات، أن يتحول الى مهرِّج، بهلوان، غامض جنسه. يتحول هي نفسها يتحلل أي شو شوربه، شوكلاته، شوشرة، شوفير أي شك، شكشكه، شكشوكة، شكـ مان، أي شر، مغنية تتغنج، مغناج تغني، راقصة تتـ... مَغّط... أن يتحول إلى أي وسيلة تسلية، تخدير، مضحكة، مبتذلة! أين تجدوا تفسيراً لحالتي الشعر والجمهور... في حاضرنا، الذي يظل يٌفرغ...؟ أفي قول النفري: «هَلَك من رَكِب و ما خَاطَر»أم في قول شقي غابر آخر، هو البسطامي: «لا يعرف نفسه من صحبته شهوته؟» هل قلتم بأنها أقوال قديمة ؟حسناً هذه مثل ثمّة، يا محمد ينو هيّا، يا أصدقائي، ابحثوا... عن أي تفسير للأمر من حاضرنا... المعروك بالمعمول والمأمول المؤمرك من جاب سيرة: مؤامرة؟ إني شخصياً ولن أتعوذ من إني لم أجد فيه إلا... تفشيراً والتفشير، لمن لا يعرف حضرته، هو أحد أقرباء الـ تشفير...ويقال بأن أحدهما ابن بار على الوجهين للآخر! ...والله أعلم.