حديقة الإنسان: الشبيه

نشر في 28-03-2008
آخر تحديث 28-03-2008 | 00:00
 أحمد مطر

تنطلق القاصة الصينية الجديدة (ييوان لي) لبناء قصتها (خلود) ضمن مجموعتها البديعة (ألف عام من الدعوات الصالحة) التي استحقت جائزة (الغارديان) للكتاب الأول، من فكرة طريفة ومعقدة في آن تتعلق بالشبه التام بين الولد اليتيم والطاغية، حيث عاش الولد حياة هانئة بسبب هذا الشبه، لكن نهايته كانت مأساوية.

ما الشعور الذي يعتري المرء إذا حكمت الأقدار بأن يكون صورة طبق الأصل من الطاغية الممسك بمقادير البلاد ورقاب جميع العباد؟

أيعد ذلك مدعاة للزهو باعتباره امتيازاً أم سبباً للرعب باعتباره انتحالاً! وماذا عن شعور الناس المحيطين به؟ أيعتبرونه سبباً للفخر لأنه يشعرهم على الدوام بوجود «القائد المنقذ» بين ظهرانيهم. أم يعتبرونه سببا للخوف الدائم، لوجوده بينهم كصورة حية للقائد المرهوب، مما يفقدهم عفويتهم ويجعلهم كينونات متخشبة حذرة؟

ولتطيين الأمر أكثر، يضاف التساؤل التالي: ماذا لو كان هذا المخلوق الشبيه بالطاغية ابناً لرجل أعدمته أجهزة الطاغية؟! بأي إحساس ستنظر إليه أمه؟ وبأي مشاعر سينظر هو إلى نفسه؟ وبأي عين سينظر الآخرون إليه؟

من هذه الفكرة الطريفة والمعقدة في آن، تنطلق القاصة الصينية الجديدة (ييوان لي) لبناء قصتها (خلود) ضمن مجموعتها البديعة (ألف عام من الدعوات الصالحة) التي استحقت جائزة (الغارديان) للكتاب الاول.

تشرع القاصّة، أوّلا، باستعراض تاريخ المخصيين الذين كانوا يعدون لخدمة الأباطرة في الصين القديمة، حيث كان التقليد الأسري لهؤلاء يخصص بعض الأبناء للخدمة في (المدينة المحرمة) بعد أن يتم تعقيمهم، فيما يتزوج إخوانهم الآخرون، بفضل مكاسبهم المالية، لكي يستمر نسلهم، من أجل حفظ اسم الأسرة من ناحية، ولتزويد القصور الإمبراطورية بخصيان جدد من ناحية أخرى، في دورة لا تنتهي.

لا تنتهي؟ حسناً، ليس تماماً، إذ إن الدورة عندما تنتهي بزوال الأسرة الإمبراطورية، تتشكل من جديد بصورة أخرى في الزمن الثوري، حيث ينقطع الخصاء مادياً لكنه يتواصل معنوياً، وبدلا من أن تكون الخصيان أعداداً منتخبة ذات امتيازات، تأذن الأقدار بأن يصبح جميع المواطنين سواسية تحت أسنان الخصاء الرسمي... ومن دون أي امتيازات!

ولكي تخفف المؤلفة من حسرتها على خصيان الزمن الثوري، فإنها تلتقط من بينهم واحدا نادرا قد حافظ على امتيازات الماضي، رغم حالته الملتبسة والمأساوية أيضا. وليس ذلك الواحد إلا رجلا قضى طالعه أن يكون شبيها للطاغية.

في بدء انتصار الثورة الشيوعية، كان هناك نجار شاب قد احتفل بزفافه، وتبعا لمظاهر النظام الجديد، كان هذا الزوج يقضي شأنه الحميم مع زوجته تحت دوي مكبرات الصوت التي تهنزل على الملايين، في البيوت والأسواق والمصانع والمزارع والشوارع، بخطب القائد والأناشيد الثورية.

وفي مثل هذا الوسط الأثيري الزاعق تخلّق الجنين في رحم الزوجة التي ما لبثت أن أضافت إلى هذه الأصوات المؤثرة، هواية ذات نتيجة أشد أثرا، إذ راحت تقتطع صور الطاغية من الجرائد والمجلات، وتحدق فيها ليل نهار، حتى إذا حل أوان الوضع، خرج الطفل إلى الدنيا مكتمل الثورة شكلا ومضمونا... فقد كان صورة مجسدة للطاغية!

ولم تمض أيام على مولده حتى أعدم والده بعد أن أطلق تعليقاً ساخراً وهو تحت تأثير السكر، وكان من سوء حظه أن التعليق لم يعجب السلطة.

ولم ينتبه أحد للشبه التام بين الولد والطاغية إلا في سنة المجاعة، حيث كان قد بلغ العاشرة من عمره. وقد كان اكتشاف الشبه مجرد مصادفة لأن أقران الولد خصوصا والناس عموما قد تعودوا على عدم النظر إليه، خوفا من أن يذكرهم وجهه بوالده الرجعي عدو الوطن!

في سنة المجاعة تلك، لم تلتفت الدولة إلى خطيئتها بتجاهل التحذيرات من الانفجار السكاني، ولا إلى سياستها الاستبدادية المدمرة التي وجهت معظم النشاط الإنساني نحو خط الشعارات وإطلاق الهتافات وترديد الأناشد، بل التفت بكل قوة خارج ذاتها بحثا عن مذنب تنزل به العقاب، فلم تجد أمامها سوى العصافير المسكينة التي اتهمت بتخريب الزرع وإتلاف الثمر، وكأنها لم تكن موجودة أبدا في جميع أزمان الوفرة! عندئذ قامت قيامة الطبول والقدور وهي تدوي وتقرقع طول الليل والنهار، بأيدي الجماهير المناضلة، على نحو موصول وبنظام النوبات، لطرد العصافير التي لم تجد وسط هذا الضجيج، موضعاً على شجرة أو فوق سطح، يمكنها أن تحط عليه آمنة، الأمر الذي اضطرها إلى مواصلة الطيران فزعة لاهثة، لتسقط ميتة في نهاية المطاف كوابل من الجثث الصغيرة.

وعند واحدة من تلك الزخّات، تناول الولد الشبيه عصفوراً ميتاً ليحمله الى والدته الأرملة المريضة الجائعة، لكن الأطفال أطبقوا عليه وكادوا يفتكون به، لولا أن جرجرت أمه رجليها نحو الباب وصرخت بهم مرتاعة: (انظروا جميعا إلى وجهه... إذا تجرأ أي منكم على لمسه مرة أخرى فسأقيم عليه دعوى عدم احترام قائدنا الأعظم).

في تلك اللحظة فقط انتبه الناس بدهشة وذعر إلى التطابق التام بين وجه الولد ووجه (ماو). ومنذ تلك اللحظة طبعت تلك المعجزة حياتهم بالفخر والخوف معا!

بعض الأولاد الذين تساءلوا عما إذا كان أمر الشبه هذا نعمة أم نقمة من ذويهم ما يؤكد أنه نقمة، ذلك لأن الخصيان في الزمن البعيد، كانوا يقتلون لمجرد ظهور أدنى شبه يقرنهم بأفراد الأسرة الإمبراطورية، حتى لو كان الشبه مقصورا على (اسم التدليل)!

لكنّ هذا التوقّع لم يحدث، فقد سارت حياة الولد وأمّه هانئ هادئة... حتى أنّه عندما أصبح شاباً أوقع رجال إدارة المنطقة في الحيرة والقلق بشأن الوظيفة التي يمكن أن تسند إليه من دون أن يكون فيها ما يسيء الى القائد الأعظم، وانتهوا الى تعيينه مسؤولا بارزاً في الإدارة دون أيّ مسؤوليات، مثل وزير بلا وزارة!

لكنّ الانعطافه الحادة في حياة هذا الشبيه كانت يوم مات القائد الأعظم، إذ إنّ الناس في غمرة انفعالهم وحزنهم كانوا يجهشون بالبكاء كلّما شاهدوه، فكان لابدّ له من أن يبادلهم الدمعة بالدمعة، حتى جفّت مآقيه وكاد يهلك، ولم تمض أسابيع حتى رآه أقرانه وهو يحمل متاعه مزمعاً الرحيل، فحاولوا ثنيه عن ذلك، لاعتقادهم بأنّ أحزانه على القائد الفقيد هي التي دعته الى مغادرة المنطقة، لكنّه ودّعهم بابتسامة غامضة مشفوعة بقول غامض: (إنني في مهمة).

ولم تلبث حقيقة تلك المهمة أن تكشف. ذلك أنه كان يتنافس مع عدد من الشبيهين بالقائد الراحل، للفوز بأداء دوره في الأفلام الوثائقية التي تنتجها الدولة، وسرعان ما كان الفوز من نصيبه، فأصبح بين عشية وضحاها نجماً راتعا في الحياة السعيدة، ومحطاً لأنظار ملايين المعجبات والمعجبين.

وفي غمرة هذه الحياة المكتظة بالتمثيل والجولات في أنحاء البلاد، تشاغل صاحبنا عن الزواج، حيث لم يكن يرى في جميع طالبات ودّه من بنات منطقته أو المعجبات به من سائر البلاد، من تستحق أن تكون زوجة له.

لكنّه، في منتصف الأربعينيات من عمره، اضطر، تحت وطأة الحاجة الجسدية المسعورة، الى ارتياد بيت المومسات، ساتراً ملامحه بياقة معطفه وبنظارة سوداء، لكنّ المومس، بعد أن عرّته، ورأت أمامها القائد الراحل وجها لوجه، دعت بإشارة خفيّة منها أحد شركائها ليقوم بتصويره.

وسرعان ما انتشرت صورة القائد الأعظم وهو عارٍ تماماً بصحبة مومس!

وهنا انتهت الأسطورة، إذ إنّ السلطة طردت الشبيه من وطيفته لأنه لم يعد لائقاً لتمثيل شخصية الزعيم الراحل، فحمل متاعه عائداً الى منطقته مجللاً بالعار، حيث لم تعد أيّ فتاة تراه مستحقاً أن يكون زوجاً لها!

وعند وصوله الى منطقته، توجّه مباشرة الى ضريح أمّه، وبعد أن وقف هناك لفترة غارقاً في دموعه، أطلق، فجأة، صرخة حادّة اهتزّ لها الأفق، ثمّ عاد من المقبرة خائراً ملطّخاً بالدّم.

لقد استأصل ذخيرته التناسلية!

وهكذا، فإنّ صاحبنا قد استطاع، بأثرٍ رجعي، وبيده لا بيد عمرو، أن يكون آخر الخصيان المحترمين!

* شاعر عراقي

back to top