Ad

أفاق القاصّ على الحقيقة الفاجعة التي كان ينبغي له أن يكون واعياً لها منذ البدء: «كان يجب أن نرتاب في مسألة «البُنّي» منذ البداية. كان ينبغي لي ولصديقي أن نقول «لا». لكنّنا لسنا الوحيدين، فكل الناس كانوا مطأطئين رؤوسهم. ذلك لأنّ كلّ ما كنا نريده هو شيء من الأمان والهدوء».

هناك قصّة قصيرة للكاتب الفرنسي من أصل بلغاري «فرانك بافلوف»، قُدّر لها أن تقود، وحدها، مظاهرة صامتة ذات أثر عاصف في واقع الحياة السياسية الفرنسية، بحيث استطاعت أن تزلزل مواقف الناخبين، وأن تميل ميلاً واضحاً بكفة ميزان الانتخابات بعد ذلك!

هل يمكن لقصّة قصيرة أن تصنع مثل هذه القصّة الكبيرة؟!

نعم... ذلك ممكن جداً بالنسبة للأمم القارئة، لأنها وحدها الأمم القادرة على الإحساس والانفعال والحركة.

القصّة عنوانها «صباح بُنّي»، وكان «بافلوف» الكاتب والعالم السايكولوجي، قد اندفع لكتابتها كردّ فعل على نتائج الانتخابات المحلية في فرنسا لعام 1998، حين تبيّن أن أعضاء في الأحزاب السياسية المهمّة قد عقدوا تحالفاً سرياً مع أعضاء حزب «الجبهة الوطنية» ذي الميول العنصرية الصريحة.

نشرت القصّة لأوّل مرّة ضمن مجموعة قصص مختارة صدرت لمناسبة مهرجان ضدّ الفاشية، لكنّها التقطت، بعدئذ، من قبل دار نشر «شين cheyne»، الصغيرة المغمورة المختصة بطباعة الكتب الشعرية، لتُصدرها في كتاب، بعد أن قدّمها «بافلوف» إليها بلا مقابل، وتنازل عن جميع حقوقه فيها.

عند طباعة الكتاب في أبريل 2002 باعت دار النشر منه عشرين ألف نسخة، وفي الأسبوع الأخير من أبريل نفسه، حصل زعيم الجبهة الوطنية «جان ماري لوبن» على 18 في المئة من أصوات الناخبين في الجولة الأولى لانتخابات الرئاسة، وهو رقم، على صغره، له دلالته العنصرية المؤسفة.

وفي مقابلة أجرتها إذاعة «فرانس - إنتر» للمناسبة مع «لوبن»، كان محاوره «فنسنت جوسيه» قد انتقد سياسة الجبهة الوطنية، واستشهد، لتعزيز نقده، بقصة «صباح بُنّي» التي قال إنها النموذج الأمثل لوصف «الشمولية» كنظام حكم.

بعد تلك المقابلة، كان هناك طوفان من الباحثين عن القصّة، وما إن حلّ يوم الخامس من يونيو حتى كانت صحيفة «لوموند» قد نشرت الدفعة الأولى من مجموعة مقالات تحت عنوان «ظاهرة صباح بُنّي»!

وفي نهاية عام 2002 كان قد بيع من الكتاب ما يقرب من ربع مليون نسخة، حتى أنه أصبح أكثر الكتب مبيعاً في فرنسا لذلك العام.

والأهم من كلّ ذلك أننا رأينا بأعيننا، في انتخابات الرئاسة الفرنسية الأخيرة، ضخامة الأثر الذي صنعته تلك القصة، حيث دفع الناخبون «لوبن» وجبهته العنصرية إلى أسفل قائمة النتائج، وانتخبوا، وياللمصادفة الطريفة، رجلاً فرنسياً من أصل بلغاري، مثل «بافلوف» تماماً!

ماذا قالت القصة؟

في «صباح بُنّي» يتحدّث القاص عن نفسه وعن صديقه «شارلي» باعتبارهما شخصين بسيطين ومسالمين وغير عابئين بأي قضية في هذا العالم سوى أن يعيشا بأمان وطمأنينة، بعيداً عن التدخل في أي أمر يثير الضغائن أو المشاكل. أي أنهما ليسا سوى رجلين من طائفة الذين «يمشون بجنب الحائط ويقولون يا ربّ الستر».

في واحدة من جلساتهما يروي «شارلي» لصاحبه حكاية عن كلبه الذي تحتّم عليه أن يعطيه حقنة قاتلة، لأن السلطة قد أصدرت أمراً بالتخلص من جميع الكلاب غير البنيّة!

عند هذا ينتبه القاصّ الذي كان مشغولاً عن حديث صاحبه بمراقبة المارّة، فيشهق متسائلاّ: «ماذا؟ إذاً فقد بدأت السلطة حملة على الكلاب الآن؟».

ذلك لأنّ حملة مماثلة كانت قد شُنّت، منذ شهر، على القطط غير البنيّة، وفي أثنائها أسلم القاص قطّته العزيزة للقتل. لكنّه، مع ذلك كان مؤمناً بأنّ السلطة على حقّ حين قررت أن القطط تكاثرت بصورة رهيبة، الأمر الذي دعا علماء الدولة إلى القول بأنّ الشيء المهم هو اقتناء القطط البنيّة، فطبقاً لآخر الاختبارات، وُجِدَ أن الحيوانات البنيّة أكثر توافقاً مع طريقة الحياة المدنية الحديثة من الحيوانات ذوات الألوان الأخرى، وذلك لأنّ فضلاتها أصغر وأن ما تأكله أقلّ جداً. وعلى أيّ حال، فإن القطّة هي القطّة، ولا ضير في حلّ مشكلة تكاثرها بالتخلّص من القطط غير البنيّة، خاصة أنّ الشرطة العسكرية كانت قد وزّعت «حبوب الزرنيخ» على أصحاب القطط مجاناً، وليس عليهم سوى مزجها بطعام قططهم غير البنيّة، لتنتهي المشكلة مرّة وإلى الأبد.

يقول القاصّ: «لقد كنت في البداية منسحق القلب من شدّة الحزن، لكنّني سرعان ما تجاوزت المحنة». غير أن مسألة الكلاب أزعجته أكثر، ربما لأنّ الكلاب أكبر حجماً من القطط أو ربّما لأنّها «أخلص أصدقاء الإنسان» كما يُقال.

أما «شارلي» فقد تعامل مع الأمر بحكمة، إذ رأى أنّه لا ينبغي شغل النفس بالتفكير بمثل هذه الأشياء، فما دامت السلطة قد قرّرت أن الكلاب البنيّة أرفع مقاماً من سواها، فمن المفترض أن تكون تلك هي الحقيقة!

بعد فترة قصيرة، حان دور القاصّ ليكون سبّاقاً بنقل الخبر الجديد لصاحبه، فالصحيفة اليومية التي تعوّد «شارلي» على قراءتها كل صباح، توقّفت عن الصدور فجأة!

تساءل «شارلي»: ماذا تعني؟ هل أضرب العاملون فيها؟ هل أعلنت إفلاسها؟

أجابه القاصّ: كلّا... لا شيء من ذلك. لقد وقعت تحت طائلة القانون الذي سبق للقطط والكلاب أن وقعت تحته... قانون «اللون البُنّي»!

وتبين أن الصحف قد بدأت تتساءل حول وجاهة الادّعاءات العلمية بالنسبة لألوان الكلاب، حتى أن بعض القرّاء الذين ما عادوا قادرين على التفكير، قد شرعوا في إخفاء كلابهم، الأمر الذي حمل السلطة على منع صدور جميع الصحف ما عدا «الصحيفة البُنيّة» التي تصدرها السلطة نفسها!

وقد بدأ القاص يفكر بأن يتحوّل إلى قارئ للصحيفة البنيّة، فما دام الناس جميعاً يبدون متآلفين مع هذا الوضع وكأنّ شيئاً لم يحدث، فقد وقر في نفسه أنه قلق من لا شيء!

بعد ذلك جاء دور «الكتب»، فقد أحيلت دور النشر المملوكة للمجموعة الناشرة للصحف اليومية، إلى المحاكم، وتمّ منع كتبها من العرض على رفوف المكتبات العامة والخاصة. ثم تطوّر الأمر إلى منع نشر أي مطبوعات تتضمن كلمة «كلب» أو «قطة»، أو تتجنّب ذكر كلمة «بنّي»!

ومع ذلك فإنّ «شارلي» كان يقول باقتناع: «القانون هو القانون، وليس هناك أي معنى لأن تلعب معه لعبة القطّ والفأر» ثم يضيف بسرعة «البُنّي... الفأر البني»، وذلك خوفاً من أن يكون هناك من يصغي إلى محادثتهما!

ولكي يكونا في الجانب الآمن، فقد شرع الصديقان بإضافة كلمة «بُنّي» إلى نهاية كل عبارة ينطقانها.

وعلى الرغم من أنّهما اقتنعا تماماً بأن يفعلا ما يؤمران به لكي لا يثيرا الشّبهات، فقد فوجئ القاصّ، ذات يوم، عندما ذهب لزيارة صديقه «شارلي» في شقّته، بوجود رجال الشرطة العسكرية أمام باب الشقّة المحطّم. ولذلك فقد واصل صعود السلّم وكأنّه يقصد الطابق الأعلى، ثم عاد مسرعاً إلى خارج البناية عن طريق المصعد.

وفي الخارج سمع همسات الجيران المتجمهرين أمام باب البناية:

- لكنّه يملك كلباً بُنيّاً... لقد سبق لنا أن رأيناه جميعاً!

- هذا صحيح، لكنهم يقولون إنه كان، في السابق، يملك كلباً أسود.

نعم... إذا «كنت» تملك كلباً غير بُنّي فتلك جريمة، وليس من الصعب معرفة ذلك، فكلّ ما على رجال السلطة أن يفعلوه هو أن يسألوا جيرانك!

في تلك الليلة عاش القاصّ رعباً حقيقياً، إذ إنّها ليست سوى مسألة وقت حتى يُلقى القبض عليه، فكل سكان الشارع يعلمون أنه «كان» يملك قطّة بيضاء.

وفي الصباح أعلنت «الإذاعة البُنيّة» أخبار الاعتقالات، وكان «شارلي» واحداً من خمسمئة شخص تم اعتقالهم أمس، وقد أكد البيان الرسمي أنه «بالرغم من أنّ هؤلاء قد ابتاعوا حيوانات بنيّة أخيراً، فإن هذا لا يعني، في الحقيقة، أنّ طريقة تفكيرهم قد تغيّرت»!

لكن ما جرى بعد هذا كان أكثر فداحة، فحتى لو لم تكن قد اقتنيت، طول حياتك، أيّ كلب أو قطة، وكان أحد من أفراد أسرتك أو أقربائك قد فعل، فأنت، حينئذٍ، مذنب مثلهم!

وعند هذه النقطة فقط، أفاق القاصّ على الحقيقة الفاجعة التي كان ينبغي له أن يكون واعياً لها منذ البدء: «كان يجب أن نرتاب في مسألة «البُنّي» منذ البداية. كان ينبغي لي ولصديقي أن نقول «لا». لكنّنا لسنا الوحيدين، فكل الناس كانوا مطأطئين رؤوسهم. ذلك لأنّ كلّ ما كنا نريده هو شيء من الأمان والهدوء».

وقد بدا واضحاً لنا، نحن القراء أنّ الأمان والهدوء هما أول ما يخسره اللائذون بظلّ «نعم» الإذعان... فهل من معتبر؟!

* شاعر عراقي

تنشر بالاتفاق مع جريدة «الراية» القطرية