Ad

قبل صدور الإعلان العالمي واعتماده نهائياً بثلاثة أشهر فقط كاد العقد أن ينفرط ويتم إلغاء المشروع نهائياً، ففي حين كانت أغلبية أعضاء اللجنة ترى ضرورة إصدار اتفاقية ملزمة، كانت القوتان العظميان الولايات المتحدة والاتحاد السوفييتي تريان أن المجلس الاقتصادي والاجتماعي كان يقصد إصدار إعلان مبادئ فقط، إلا أن الاقتراح البلجيكي أنقذ الإعلان.

مازال الإعلان العالمي لحقوق الإنسان على الرغم من دخوله عامه الستين الوثيقة الأكثر تأثيراً في الساحة الدولية، ولعل أحد آخر المؤشرات على ذلك التأثير كان المؤتمر الدولي الذي عُقِد أخيراً في جزيرة بالي الجميلة في إندونيسيا حول البيئة والاحتباس الحراري، فالحق في بيئة نظيفة هو الجيل الثالث من أجيال حقوق الإنسان بعدالجيل الأول وهو الحقوق المدنية والسياسية والجيل الثاني، وهو الحقوق الاقتصادية والاجتماعية والثقافية ويتبعها الجيل الرابع وهو الحق في التنمية. ومازال الإعلان، شاء من شاء وأبى من أبى، يمثل محور الارتكاز لكل أنواع وأشكال ومضامين حركة البشر نحو المساواة والعدالة واحترام كرامة الإنسان. ذلك بغض النظر عن مدى استغلاله وتوظيفه سياسياً والذي تقوم به الدول جميعها من دون استثناء.

في السنوات الثلاث من 1945 حتى 1948 التي تم فيها التحضير ثم صدور الإعلان برزت إلى السطح نجوم أسهمت سواء كأشخاص أو كدول في صدوره، حيث شارك عدد كبير من الدبلوماسيين (السياسيين وليس المفكرين أو الفلاسفة) وتقدموا بمئات التعديلات في مئات الاجتماعات وقاموا بالتصويت على تلك المقترحات أكثر من ألف تصويت، فاللجنة الثّمَانية (التحضيرية) عقدت 18 اجتماعاً ثم عقدت اللجنة الموسعة من 18 عضواً 81 اجتماعاً امتدت على مدى سنتين، كما عقدت لجنة الصياغة المنبثقة عنها 44 اجتماعاً، ثم عقدت اللجنة الثالثة الخاصة بالشؤون الاجتماعية والثقافية والإنسانية بمجملها أو بلجانها الفرعية أكثر من 150 اجتماعاً ما بين 21 سبتمبر إلى 8 ديسمبر 1948 تمت فيها مجدداً مناقشة تفصيلية لمشروع الإعلان وجرت عليه مجدداً تعديلات أساسية.

وهكذا لم يتم ظهور الإعلان في قبو من أحد أقبية المؤامرات الدولية التي تحيكها الدول الكبرى لفرض هيمنتها سواء السياسي منها أم الثقافي، بل جرى نقاش مفصل شاركت فيها كل ثقافات العالم، وكان الدور الذي لعبته الدول الصغيرة والدول العربية والإسلامية دوراً مهماً وأساسياً، بل إنه حتى مايو 1948، أي قبل صدور الإعلان واعتماده نهائياً بثلاثة أشهر فقط كاد العقد أن ينفرط ويتم إلغاء المشروع نهائياً وتُنسف أعمال اللجنة، ففي حين كانت أغلبية أعضاء اللجنة ترى ضرورة إصدار اتفاقية ملزمة، كانت القوتان العظميان الولايات المتحدة والاتحاد السوفييتي تريان أن المجلس الاقتصادي والاجتماعي كان يقصد إصدار إعلان مبادئ فقط، واستغرقت تلك المواقف المتباينة جهد الأعضاء واستنزفتهم بالكامل. واستمر النقاش عدة أيام من دون جدوى ومن دون ضوء في نهاية النفق. فما كان من المندوب البلجيكي إلا أن تقدم باقتراح حل سط، وهو أن تشكل لجنة حقوق الإنسان على الفور 3 مجموعات عمل: الأولى، حول الإعلان، والثانية، حول المعاهدة أو المعاهدات، والثالثة، حول وسائل التطبيق، ومع معارضة الولايات المتحدة والاتحاد السوفييتي للاقتراح البلجيكي إلا أنه فاز بأغلبية 9 أصوات مقابل 5 أصوات مع امتناع صوت واحد، وقد حدد الاقتراح البلجيكي البدء الفوري بالعمل حول الإعلان على أن ينتظر فريقا العمل الآخران ريثما تتقدم السكرتارية بمذكرات حول الموضوع.

وهكذا أنقذ الاقتراح البلجيكي الإعلان، وإلا كان مصير كل تلك الاجتماعات صفراً كبيراً. بل إن الموقف السلبي من الدول الكبرى وإصرارها على صدور إعلان وليس اتفاقية ربما خدم حركة حقوق الإنسان من حيث لا تعلم، فالإعلان كونه غير ملزم كان صدوره سهلاً، كما أنه أصبح الوثيقة المرجعية ولربما لم يكن ذلك ليتحقق لو أنه صدر على شكل اتفاقية.

د. غانم النجار - نيويورك