جغرافيا البؤس والعناد

نشر في 23-03-2008
آخر تحديث 23-03-2008 | 00:00
 د. محمد السيد سعيد

إن كان بناء مسجد عملاق ومكلف للغاية أمراً مرحباً به في دول غنية ومتقدمة مثل إيطاليا، فالقيام بنفس الشيء في بلد يعاني المجاعة والحروب نموذج للأولويات المعكوسة في هذه المرحلة. فلم يعد البؤس يعني الجنوب ولم يعد الجنوب بالضرورة بائسا، واليوم يحقق الجنوب الإيطالي والجنوب الأميركي معدلات أعلى للنمو الاقتصادي.

متأخر جداً أن نناقش الحكمة من قرار العقيد القذافي بناء مسجد في كمبالا في أوغندا يقال إنه يتسع لنصف مليون مصل. فقد اكتمل بناء المسجد بالفعل وتكلف أرقاما فلكية ويقال في تبرير ذلك إنه يعرض للشعب الأوغندي مآثر العمارة الإسلامية.

بناء مسجد كبير من الأغراض النبيلة ولكن الإسلام لم يلزم به أحد خصوصاً إن كان بالغ الفقر مثل كينيا. ويمتاز الإسلام بأنه لم يتجه إلى بناء المساجد الكبيرة والمكلفة وأنه أدرك أن العمل من أجل تلبية الحاجات الأساسية له أولوية حتى عن الصلاة. وكان الاتجاه إلى بناء مساجد عملاقة أو مكلفة أمراً يرتبط باستعراض الملوك والأباطرة لهيبتهم وقوتهم وثرائهم وليس بالتعاليم الدينية. إذ يستطيع المسلمون أداء صلواتهم الخمس يوميا في أي مكان يختارونه مهما كان متواضعا وبسيطا. بل إن هناك من يؤكد تفضيل الإسلام للصلاة في الفضاء المفتوح عن المباني المغلقة.

والخلاف الحقيقي والجدير بالمناقشة هو كيف يقدم العرب والمسلمون دينهم في مناطق شديدة الفقر مثل إفريقيا. فالعقيد الليبي فضل أن يقدم نفسه من خلال عرض رائع للعمارة الإسلامية في المسجد المسمى باسمه في أوغندا. وبالمقابل فكثير من علمائنا يرون أن يتم تقديم الإسلام للآخرين بالقدوة وبضرب نماذج متميزة وملهمة في كيفية تحقيق التقدم والتحرر من الفقر والبؤس.

من جديد لا يدور الخلاف حول أهمية بناء المساجد. الخلاف يدور حول ما إذا كان بناء مسجد عملاق في بلد يعد المسلمون فيه أقلية صغيرة هو أفضل طريقة لإظهار الود والصداقة للشعوب الأفريقية الفقيرة. وفي رأيي أن هذا القرار يكرس جغرافية البؤس ولا يدعو الناس إلى التحرر منه ومن ويلاته المريعة اقتصاديا واجتماعيا وأخلاقيا. ففي بلد يموت فيه الناس من الجوع ويعانون الافتراس المنظم لأوبئة كالأيدز مثل أوغندا يجب أن نناقش أولوياتنا. والأصل هو نقدم قدوة إيجابية وملهمة في التحرر من البؤس بما يسمح لاحقا ببناء مساجد كبيرة وصغيرة تعرض لعظمة العمارة الإسلامية. وبهذا المعنى كان بناء عشرات من المدارس أسلوباً أفضل لتقديم هذه القدوة وضمان حق الناس في أداء صلاتهم في نفس الوقت.

الظرف الأفريقي

وظني أن قرار العقيد القذافي يكرس لما أسميه بجغرافيا البؤس، فإن كان بناء مسجد عملاق ومكلف للغاية أمراً مرحباً به في دول غنية ومتقدمة مثل إيطاليا فالقيام بنفس الشيء في بلد يعاني المجاعة والحروب نموذج للأولويات المعكوسة في هذه المرحلة.

إن واجبنا كمسلمين هو مساعدة أنفسنا أولا ومساعدة غيرنا من الشعوب على التحرر من البؤس، أفريقيا كلها تقريبا هي نموذج لجغرافيا البؤس. فهي القارة الأكثر فقراً في العالم، والأسوأ هو أنها القارة التي يتراجع فيها النمو بانتظام ويصير «سلبيا»، وبسبب هذا النمو السلبي تراجع الدخل القومي المجمع لأفريقيا جنوب الصحراء في التسعينيات إلى أقل من نصف ما كان عليه في الخمسينيات بالرغم من تدفق الثروة البترولية وكثرة الثروات المعدنية والموارد الأخرى في القارة. وبينما يتزايد نصيب أفريقيا من الفقر العالمي فإن نصيبها من مختلف صور الحروب والعنف الأهلي ظل يتزايد لأغلبية سنوات حقبة الاستقلال، بل جاءت سنوات لم يكن في العالم فيها حروب سوى في أفريقيا!

وحتى نبني علاقة إيجابية مع أفريقيا كان يجب أن نتساءل عن أسباب استمرار هذا الواقع المرير. لماذا يتركز البؤس في أفريقيا جنوب الصحراء وبعض المناطق الأخرى في العالم خصوصا آسيا والكاريبي.

كانت الإجابة عن هذا السؤال هي الدافع الأساسي لبروز علم التنمية الاقتصادية بل علوم أخرى كثيرة في مقتبل الخمسينيات، ومثل كتاب ميردال «الدراما الآسيوية» البداية الحقيقية لهذا العلم أو لمسعى الإجابة عن السؤال: لماذا يتقدم الغرب أو الشمال بينما يتركز البؤس في جنوب العالم.

ميردال قال إن السبب في عناد الفقر والبؤس في مناطق معينة هو ما أسماه الدوائر الشريرة للتخلف، فالتخلف يعني الفقر ومن ثم قلة رأس المال المتاح للاستثمار ومن ثم شيوع البطالة وضعف الدخل ومن ثم غياب الادخارات ورؤوس الأموال الضرورية للتنمية، ولأن إتاحة الطب الحديث حتى لأصغر القرى في آسيا دفع لهبوط بالغ السرعة في معدل الوفيات تعاني البلاد التي هي أصلا فقيرة انفجارات سكانية تضاعف الضغط على الموارد وبالتالي تضعف الميل للادخار والاستثمار... إلخ. وأضاف ميردال نفسه وكثير من تلاميذه مستويات ومجالات أخرى للدوائر الشريرة التي تعيد إنتاج التخلف والبؤس، فالحروب تكثر وتصبح أكثر تدميرا للموارد فيما بين المجتمعات الفقيرة، ولعل الصومال شاهد لا يكذب لصحة هذه الأطروحة أو نموذج للافتراس والبؤس الناجم ليس فقط عن الفقر الأصلي إنما أيضا عن حرب أهلية متواصلة وممتدة لأكثر من عقدين.

عناد البؤس

كانت هذه الإجابة مبهرة بالنسبة للجيل الأول من علماء التنمية لأنها تحررت كثيرا من العنصرية التي كانت تهيمن على عقول العلماء والشراح لفقر المستعمرات والعالم الثالث عموما، وكثيراً ما كانت هذه العنصرية تتخفى وراء التركيز على العامل الجغرافي بذاته، وببساطة كان العلماء ينظرون حولهم في العالم أجمع تقريبا ويرون الجنوب في أغلبية الدول بما فيها الدول المتقدمة أكثر فقراً وأقل تقدما، ومن ثم وجدوا إجابة نمطية تقول إن الجغرافيا نفسها تفسر الفقر واستمراره.

ولكن التطورات التي شهدتها جغرافيا البؤس تفرض البحث عن إجابات مختلفة. فلم يعد البؤس يعني الجنوب ولم يعد الجنوب بالضرورة بائسا، واليوم يحقق الجنوب الإيطالي والجنوب الأميركي معدلات أعلى للنمو الاقتصادي، بل تنتقل الثروة والصناعة للجنوب الأميركي بمعدلات قياسية وأصبح أكثر جذبا للسكان في القارة الأميركية، ويصدق نفس الشيء على أميركا الجنوبية حيث تحقق شيلي في أقصى الجنوب معجزة اقتصادية مؤثرة، ولا شك أن جنوب أفريقيا هي المنطقة الأكثر تطورا في كل القارة بما فيها شمالها العربي.

ورغم سلامة هذا التحفظ على النظرية الجغرافية للبؤس لاتزال ثمة أسئلة كثيرة غير مجاب عنها بصورة كافية، السؤال الرئيسي يتعلق بعناد هذه الظاهرة، فحتى عندما يتم كسر دوائر ميردال الشريرة في المجال الاقتصادي وينمو الاقتصاد بمعدل أسرع تظل هناك «دوائر شريرة» في المستوى أو المجال الثقافي. فالجنوب في الولايات المتحدة ينمو بمعدلات أعلى من المتوسط وتنتقل له الصناعات حتى المتقدمة ولكنه لايزال يقاوم كل محاولات التقدم الثقافي العقلاني، ونفس الشيء نلاحظة في جنوب إيطاليا.

وقد أذهلني الاطلاع على تقرير التنمية البشرية الصادر عن معهد التخطيط في مصر عبر سلسلة زمنية. وللأسف لم يجب التقرير عن السؤال الذي حير العلماء طويلا: وهو لماذا يظهر الفقر كل هذا العناد وكل هذه المقاومة عبر الزمن في مناطق جغرافية معينة؟ وفي حالة مصر يبدو هذا العناد واضحا للغاية في الصعيد أي الجنوب، فالفقر في الصعيد أشد، والأكثر مرارة على النفس هو أن نسبة الفقراء تتزايد في الصعيد مقارنة بالدلتا. فبينما كانت نسبة الفقراء في ريف الصعيد %31.8 عام 1996 صارت %34 عام 2006.

ومن الطريف أن «الصعايدة» أنجح كثيراً عن الفلاحين من الدلتا في الحصول على الثروة وهم أكثر نبوغاً في التعليم ولكن... خارج الصعيد! هل يعني ذلك أن المشكلة في المنطقة الجغرافية ذاتها؟ بالقطع لا. ما يفسر عناد البؤس في الصعيد وفي كل المناطق الأخرى هو الجمود الذهني الذي يحرس تقاليد بالية وطرقا بائسة في التفكير.

* نائب رئيس مركز الدراسات السياسية والاستراتيجية في الأهرام

back to top