جــدل المواطنـة والهويــة!
لعل في اختيار منتدى الفكر العربي موضوع «المواطنة» عنواناً لندوته السنوية (الرباط 21-23 أبريل 2008)، أكثر من دلالة، الأولى أنه موضوع راهن وأصبح مطروحاً على بساط البحث، لاسيما أن هناك تجاذبات كثيرة حوله، داخلياً وخارجياً والثانية هناك التباس نظري وعملي بشأنه، لاسيما في مواقف الجماعات والتيارات الفكرية والسياسية والقومية المختلفة، والثالثة أن إشكالية المواطنة بدأت تحفر في أساسات الدولة والهوية، الأمر الذي يجعل من الواجب إدارة حوار فكري ومعرفي حوله طالما أنه يدخل في صلب الإشكالات والمشكلات التي تواجه المصير العربي، لاسيما أن التشظي والتفتيت بدأ يطول الهويات، في حين أن الهوية كانت تطمح إلى تجاوز التشرذم الطائفي والديني والإثني والعشائري باتجاه هويات موسعة لمجتمعات تعددية متماسكة ومتكامل. والرابعة علاقته بحقوق الإنسان، خصوصاً بمبدأ المساواة والحقوق الأساسية خصوصا حق المشاركة، ولعل هذه الإشكالية هي التي تشكل جوهر فكرة المواطنة، خصوصاً إذا ما أقرناها بالحرية والعدل وهو ما نطلق عليه «المواطنة العضوية».لايزال الفكر العربي يعاني نقصا فادحا فيما يتعلق بثقافة المواطنة، وتستمر النظرة الخاطئة أو القاصرة الى مبدأ المساواة قائمة ناهيكم عن شحة فرص الحرية، إضافة الى الموقف السلبي من الأقليات وحقوق المرأة، وهو الأمر الذي عالجه الباحث والمفكر اللبناني الدكتور عدنان السيد حسين في بحثه المهم عن المواطنة في الوطن العربي متوقفاً عند دلالات المصطلح تاريخياً، لاسيما في الإسلام، وصولاً إلى الفكر الليبرالي المعاصر، خصوصاً بتطور فكرة الدولة الحديثة، وعلاقة المواطنة بحقوق الإنسان، وهي إطلالة مهمة وجدت من الضروري التركيز عليها وإضاءة جوانب أخرى منها لاسيما مفهوم المواطنة العصري. وكان الأمير الحسن بن طلال مؤسس المنتدى وراعيه وهو يطرح دعوته الى نظام إنساني عالمي جديد مذكراً بإعلان عمان لعام 1981 حول السلام العالمي حيث تبنت الأمم المتحدة وثيقة بعنوان «نحو نظام إنساني عالمي جديد» وانبثقت عنه «لجنة الأمم المتحدة للقضايا الإنسانية الدولية» قد توقف عند فكرة المواطنة أو المواطنية التي اعتبرها تعني «إعادة بناء الذات من أعمق الأعماق، بل إعادة هندسة الكينونة العربية من أجل أن نكون جزءاً من المواطنة العالمية، فننطلق من خصوصيتنا وهويتنا نحو الإنسانية المشتركة الواحدة».
جدير بالذكر أن لجنة الأمم المتحدة المشار اليها أصدرت تقريراً في العام 1985 بعنوان «هل تكسب الإنسانية معركتها؟» عالج عدداً من القضايا العالمية الملحّة مثل: الفقر والجوع والتصحّر والإرهاب والتسلح، مع تأكيده على احترام حقوق الإنسان.أعتقد أن نقل الحوار والجدل الذي اتسم بالعلمية والرصانة والاجتهاد في ندوة الرباط، إلى منابر أخرى لاسيما الجامعات ومراكز الأبحاث وإقامة منتديات فكرية وثقافية وإشراك أوساط من النخب والمختصين، إضافة الى مؤسسات المجتمع المدني والبرلمانات والحكومات في الآن ذاته، ناهيكم عن قطاعات شعبية خصوصاً من النساء والأقليات، وبمساهمة حيوية من جانب الإعلام لاسيما الفضائيات في ظل ثورة الاتصالات والمعلومات وبفضل الإنترنت والكومبيوتر، يمكن أن يؤدي دوراً كبيراً في زيادة الاهتمام بفكرة المواطنة وتعزيز أركانها وصولاً الى المواطنة العضوية، وهو ما يطرحه الباحث بالتركيز على أربعة أركان هي: المساواة والحرية والهوية والعدالة. ولا يمكن الحديث عن مواطنة من دون هذه القيم إضافة الى الكرامة التي هي قيمة مطلقة حسب الفيلسوف إيمانويل كانت.وإذا كان الحديث عن فكرة المواطنة الأوروبية قبل نحو ستة عقود من الزمان يعتبر ضرباً من الخيال لاسيما بعد حربين عالميتين مدمرتين، سبقتهما حروب وعداوات وكراهية وكيد، ذهب ضحيتها عشرات الملايين من البشر في أوروبا، فإن الحديث اليوم عن مواطنة أوروبية واتحاد أوروبي وبرلمان أوروبي وهوية أوروبية ومحكمة أوروبية لحقوق الإنسان وعدالة أوروبية واقتصاد أوروبي وعملة أوروبية وثقافة أوروبية أمر ممكن بل واقعي، رغم التنوع والاختلاف والتمايز، لكن في إطار وحدة المصالح المشتركة والمنافع المتبادلة وفي إطار المشترك الإنساني فهل يمكن الحديث عن مواطنة عربية موسعة ونحن نشهد مواطنة محلية منقوصة أو مبتورة أو تتعرض الى التشظي والتشرذم؟ ولنأخذ بعض النماذج فقد تأسس مجلس التعاون الخليجي في 25 مايو 1981 كمنظمة إقليمية أساسها تبادل المصالح والمنافع المشتركة، وبدأت تنشأ بين دوله علاقات جديدة اقتصادية وتجارية وثقافية تطورت بحكم التجربة، وإن كانت ببطء شديد، الى نواة اجتماعية لمواطنة خليجية خصوصاً بحرية التنقل وحق الإقامة وتقارب المناهج التربوية وبعض القوانين المشتركة. ولا شك أن هذه التطورات ستحدث تراكماً تدريجياً باتجاه التكامل والهوية المشتركة، الأمر الذي يشكّل أساساً ضرورياً وملموساً لمواطنة خليجية لاسيما بعد الخطوات الإيجابية لتأسيس السوق الخليجية المشتركة التي بدأت في مطلع العام 2008. ولعل إرهاصات هذه المسألة يمكن ملاحظة بداياتها الجنينية في المغرب العربي الذي يمكن أن يكون هو الآخر حجر أساس لمواطنة مغاربية لاسيما من خلال التكامل الاقتصادي والتواصل الاجتماعي والتبادل الثقافي والمناهج التربوية المشتركة وبعض الاتفاقيات المشتركة.إن هذه النوتات يمكن أن تكون أساساً مشتركاً لمواطنة موسّعة تنطلق من المواطنة المحلية الى المواطنة العربية الأمر الذي لم يعد شعاراً سياسياً حالماً وهو ليس اختياراً فحسب، بل هو اضطرار وضرورة لاسيما في ظل الاتحادات والتجمعات والكتل السياسية والاقتصادية الكبيرة على النطاق العالمي، ولعل العالم العربي باتساعه وموقعه الاستراتيجي وثرواته وموارده سيكون صغيراً أمامها، فما بالك إذا كان متنافراً وتتصارع فيه هويات جزئية تدفعه الى المزيد من التشظي؟!ولا شك أن تفعيل المواطنة «القطرية» وتعميقها من خلال أفق مستقبلي يقود إلى مواطنة عربية أوسع وأشمل وأكثر فائدة وجدوى على المستوى الرسمي أو الشعبي سيكون لها حضورها وتأثيرها، خصوصاً أن استهدافات حالية لتشطير وتفتيت المواطنة المحلية جارية على قدم وساق، الأمر الذي يجعل توسيع دائرة المواطنة الموسعة حاجة ماسة وضرورة ملحة بما يوفّر منافع أكبر ومصالح أكثر، بحيث يكون لكل مواطن من أي بلد عربي وبغض النظر عن النظام السياسي، حرية التنقل والإقامة والعمل وتدريجياً وبعد سبع سنوات أو عشر سنوات مثلاً حق التصويت والترشيح للانتخابات المحلية (الإدارة المحلية والبلدية)، حتى إن لم يحمل جنسية الدولة العربية المقيم فيها، وأن يكون الاتحاد البرلماني العربي (البرلمان الموحد) منتخباً من جانب المواطن العربي بغض النظر عن جنسيته لاختيار الهيئة التشريعية العربية، تمهيداً للمواطنة العربية. ويكون من حق كل عربي أو يحمل جنسية أي بلد عربي، حتى إن كان من الأقليات القومية أو الدينية، التمتع بالحقوق التي يمكن الاتفاق عليها على غرار معاهدة ماستريخت لعام 1992 للاتحاد الأوروبي وإن كان الأمر يحتاج إلى تدرّج وتراكم وصولاً إلى ذلك، ولبلوغ مرحلة التكامل.وإذا كان التقارب والتعاون والتراكم لبلوغ التكامل حتى إن كان في قضايا بعيدة عن السياسة، كالعلوم والصحة والتعليم والبيئة وأنظمة المرور والبريد والهاتف وحق الإقامة والتنقل وغيرها، إلاّ أنه لا بدّ من توافر إرادة سياسية، خصوصاً أن هناك تحديات تواجه فكرة المواطنة سواءً بمعناها المحلي أو الموسع وهي تحديات خارجية تلك التي تريد إبقاء العالم العربي على ما هو عليه من تناقض وتناحر أحياناً، وعدم اتفاق لفرض الهيمنة عليه، وتحديات داخلية أبرزها استخدام الموروث الديني والاجتماعي والانقسام المذهبي والطائفي والانتماءات الضيقة العشائرية والجهوية لإدارة الأوضاع القائمة على نحو سلبي بما يباعد الموقف السليم من فكرة الهوية الجامعة والمواطنة العضوية!!* كاتب ومفكر عربي