ماذا يريد الجمهور؟
كنت عائداً من المملكة العربية السعودية، وأمام مسؤول الجوازات في مطار الملك عبد العزيز، لاحظ العسكري الشاب ذو اللحية المهذبة، طبيعة عملي في خانة الوظيفة؛ فبادر باهتمام سائلاً «بما أنك خبير إعلامي... هل تنصح الصحافيين بتغطية أخبار غزة؟»؛ فأجبته: «كلا... أنصحهم بتغطية الأخبار التي تهم الجمهور، وتلبي أولوياته، ويريد أن يعرف عنها؛ فإن كانت عن غزة... فغزة، وإن كانت عن العراق... فعراق، وإن كانت عن مباراة الأمس بين أهلي جدة والكرامة السوري فهي كذلك».لم يرُق ردي للشاب، فسألني متجهماً «نترك ما يحصل في غزة من قتل وتشريد لأهلنا من المسلمين والعرب، ونتحدث عن مباراة الأهلي والكرامة؟». فقلت: ليس الأمر بهذه السهولة؛ فالمسألة أكثر تعقيداً؛ فهناك نوع الوسيلة التي نتحدث عنها، وما إذا كانت إخبارية أو ترفيهية أو تثقيفية، كما أن طبيعة الجمهور المستهدف أمر حيوي لاختيار الموضوعات التي سيتم التركيز عليها ومعالجتها.
والواقع أن الوقت والمكان لم يكونا مناسبين لإتمام هذا النقاش الذي أراه مهماً ومتسع الجوانب إلى حد كبير، فبعض الجمهور، تحت انفعال ما بحدث يراه جللاً، يريد أن يجعل وسائل الإعلام مقتصرة في عملها على تغطية أنباء هذا الحدث، وهو بذلك لا يظلم وسائل الإعلام والإعلاميين فقط، لكنه أيضاً يقول ما لا يفعل هو وكثير من نظرائه.لقد أتاحت لنا التكنولوجيا الكثير من الإمكانات التي يمكن باستخدامها الوصول إلى معلومات مفيدة جداً، فيما يتعلق بتشخيص احتياجات الجمهور وتحديد أجندات اهتمامه؛ ومن ذلك ما توفره برامج إدارة المحتوى على الإنترنت من آليات لرصد عدد مرات الدخول (Hits)، أو التصفح (Browsing)، فيما يتعلق بكل مادة منشورة على الشبكة العنكبوتية، وفي أي موقع من المواقع.واستفادة من هذه التقنيات الحديثة، بات من الممكن لكل موقع إلكتروني تحديد الموضوعات الأكثر جذباً للقراء من الزوار، بل يمكن أيضاً تحديد ما إذا كان القارئ مر على الموضوع مروراً عابراً، أم تصفّحه ملياً، بل يمكن أيضاً معرفة كم دقيقة أو ثانية أمضاها القارئ في المتوسط متصفحاً هذا الموضوع أو ذاك.على أي حال فتفقد أحوال مستخدمي الإنترنت العرب لن يسر صديقنا المتحمس في مطار الملك عبد العزيز بجدة، كما أنه سيضع المسؤولين عن إعداد المحتوى واختيارات الموضوعات المعدة للنشر في المواقع المختلفة أمام تحديات صعبة.فرغم أنه لا يمكن لأي ناقد أو راصد موضوعي أن يُبرئ القائمين على الإعلام العربي من قصور ما في أدائهم لعملهم؛ إذ تعاني صناعة الإعلام العربية المشكلات ذاتها التي تعانيها بقية الصناعات في منطقتنا؛ مثل غياب المؤسسية، وطغيان عناصر غير معيارية على عوامل الجودة والاحتراف، فإنه، وفي الوقت ذاته، لا يمكن أن يُبرئ الجمهور نفسه، حين يكون الحديث عن اختيارات القصص، وحرف الجماعة العربية عن الأولويات المهمة. فالجمهور، في قطاعه الكبير والمؤثر، يبرهن، وفق المؤشرات المتاحة كلها، وعلى فرض صدقها، على نزوع مطرد واضح نحو أجندة اهتمامات غير سياسية في الاساس، وغير جادة في المجمل، وتنحو نحو الإثارة بشقيها الجنسي والديني بصفة عامة.خذ مثلاً؛ أن أكثر الأخبار الأجنبية نشراً في الصحافة العربية المطبوعة والإلكترونية واحتفاء من قبل الجمهور عبر الدخول المتكرر عليها، في عام 2006، يتعلق بـ «عدد مرات ممارسة الجنس بين الشعوب المختلفة».وفي عام 2007، أفاد أكبر موقع إخباري عربي لجهة عدد الزوار في اليوم الواحد، أن أكثر الأخبار قراءة عليه كان عن «فتوى إرضاع الكبير»، و«ست أصابع بقدم هيفاء وهبي». الموقع ذاته يفيد أن المنوعات، ثم الرياضة، فالصحة هي الأبواب الثلاثة التي تحظى بأكبر اهتمام وتصفح من الجمهور، الذي يفوق المئة ألف في اليوم الواحد.موقع إخباري آخر من أكثر المواقع الصحافية ذات الأجندة الإخبارية زيارة على الإنترنت العربي، أفاد أن أكثر الأخبار قراءة عليه خلال الشهر الأخير جاءت على النحو التالي: «حملة عالمية لنزع الحجاب تضامناً مع هيفاء وهبي»، «ضبط أوكار للدعارة وتورط 1180 فتاة»، «مصرية ولبنانية تصوران فيلماً كاملاً عن العلاقة الجنسية بين سحاقيتين»، «اعتقال إماراتي وضع كاميرا للتلصص على النساء في حمام وزاري بدبي»، «جدل في مصر بسبب فتوى تبيح القبلات بين غير المتزوجين».لا يوجد بين تلك الموضوعات ما يوحي أبداً باهتمام جماهيري بقضية ذات طبيعة سياسية واضحة، على الرغم من أن هذا الشهر شهد نشر الكثير عن أحداث غزة والعراق واليمن والسودان والانتخابات الأميركية وغيرها.ليس هناك شك في أن محاولة تشجيع الصحافيين على مراجعة اختيارات القصص التي يتصدون لمعالجتها، وحض وسائل الإعلام على اختيارات أكثر قرباً ومراعاة لأولويات الجمهور أمر مهم، لكن ألا يجدر بهذا الجمهور أيضاً أن يكف قليلاً عن العبث، ويعرف أن ثمة ما هو مهم أيضاً إلى جانب فتوى إباحة القبلات بين غير المتزوجين وحجاب هيفاء وهبي. وقبل هذا وذاك، أن يكف عن انتقاد القائمين على الإعلام كونهم يستجيبون رغباته التي يخجل من إعلانها.*كاتب مصري