لا تلومَنَّ إلا نفسك
لا شك أن الإعلامي نفسه يتحمل جانباً كبيراً من المسؤولية في التغطية المعتلّة لأي حدث؛ إذ يندفع واعياً أو غير واعٍ إلى الإدلاء بآرائه، وتضمينها ما يقدّم من تقارير وأخبار، وصولاً إلى حد الكذب التام، حارفاً الجمهور عن الحقيقة تماماً. كما يتحمّل رؤساؤه والمؤسسة التي يعمل فيها مسؤولية أكبر.
وقف المراسل المشهور منفعلاً أمام مشاهد الدمار ووسط أطنان من الركام، محاولاً أن ينقل للجمهور جوانب المأساة التي يشهدها، من خلال شاشة الشبكة الإخبارية العالمية التي يعمل لها؛ فقال مفتتحاً تقريره: «أتى الزلزال على المدينة بأكملها، كما دمّر نظام الطبقات، الذي طالما عانته البلاد». لقد كان فعلاً زلزالاً مروعاً، هدّم عدداً كبيراً من المباني في تلك المدينة الهندية، ما جعله «القصة الأولى» في معظم المحطات الإخبارية والصحف المختلفة.وكما توقع المراسل، فقد أتاه اتصال من رئيسه على الفور، ولكن ليس لتهنئته على تقريره الذي تم بثه للتو من موقع الزلزال، وليس للإشادة بالدور الذي يلعبه، والعناء الذي يتحمّله، والمشكلات التي قد يتعرّض لها في هذا الموقع الخطر، ولكن لمحاسبته ولومه، وربما لإيقاع العقاب عليه.سأل الرئيس: «هل يمكن القول إن المدينة لا تحوي الآن بناءً واحداً قائماً بعد ضربات الزلزال؟»، فأجاب المراسل: «كلا سيدي، ثمة العديد من المباني لايزال قائماً، لقد تمركزت الانهيارات في شمال المدينة وغربها حيث مركز الزلزال، وفي الوسط هناك أضرار كذلك، أما المناطق الشرقية والجنوبية، فعدد قليل من مبانيها تعرض للانهيار أو التصدع».وعاد الرئيس فسأل مراسله: «هل يمكن أن تشرح لي كيف تمّ تدمير نظام الطبقات في الهند بسبب الزلزال؟»، فأجاب المراسل: «كما تعرف سيدي، فالهند تعيش في بعض مناطقها حياة طبقية، إذ ينقسم السكان إلى طبقات وفقاً لمعايير اجتماعية أو اقتصادية أو دينية، ويؤدي ذلك إلى تمييز وتفرقة في المعاملة شديدة، لكن الزلزال صهر الكل في البوتقة نفسها، حيث تجتمع جثتان لفقيدين من طبقتين مختلفتين في حفرة واحدة، أو تنقل عربة الإسعاف المصابين من تلك الطبقات المختلفة من دون أي تمييز، هذا ما قصدته سيدي». وهنا أجاب الرئيس: «حسناً، لِمَ لمْ تقل ما قصدته تحديداً، لماذا لم تقم بصياغته بإحكام، ونقله بأمانة إلى جمهورنا، لماذا تكذب على الناس، وتدلي برأيك وتصوراتك بينما هم ينتظرون منك الحقائق... فقط الحقائق؟ كيف نبرر لجمهورنا أن المدينة فيها العديد من المباني غير المتضررة، بينما نحن أبلغناهم للتو أنها دُمرت بالكامل، وكيف ندافع عن أنفسنا إذا اتّصل بنا أحد المهمّشين أو المنبوذين من سكان المدينة شاكياً من أن نظام الطبقات مازال يعمل بمدينته على عكس ما ذهبنا إليه؟».لم يتحدث الرئيس هنا من فراغ، بل حاول أن ينقل بأمانة إلى مراسله إحدى القواعد الأساسية التي يجب أن يلتزمها كل من يعمل في الأخبار، وفي أي وسيلة من الوسائل الإعلامية، وتحت أي ظرف، ومهما كانت الضغوط والانفعالات. فالناس فعلاً يشترون الصحيفة أو يشاهدون المحطة للحصول على الحقائق والتعرف إلى الآراء، وإحدى المسؤوليات المهمة لأي إعلام رشيد تتلخّص في الفصل الواضح بين ما هو رأي وما هو خبر، وإلا تلقّى الجمهور انطباعات المراسل على أنها حقائق، وبنى السياسات، واتّخذ القرارات على أساس رؤى ووجهات نظر، قد تكون هوائية أو مشحونة بالعواطف، وربما مشبوهة وممولة من أصحاب مصالح، وهنا يتحوّل الإعلام من خدمة للجمهور إلى خدعة له أو منابر دعائية لأفكار أو جماعات أو أفراد.سيقول البعض إن ثمة قضايا لا يُختلف عليها، وهو أمر غير صحيح بالطبع، لأنه لا توجد قضية واحدة تشهد اتفاقاً كاملاً من قبل أطرافها جميعهم بين القضايا التي تعالجها الأخبار؛ دوماً ستجد من يؤيد ومن يعارض، ودور الإعلامي هنا أن ينقل بحياد قدر المستطاع وجهة نظر هذا وذاك، وفقاً لحجم وجود أصحاب كل فريق بين الجمهور المستهدف وفي الواقع.ولا شك أن الإعلامي نفسه يتحمل جانباً كبيراً من المسؤولية في تلك التغطية المعتلّة؛ إذ يندفع واعياً أو غير واعٍ إلى الإدلاء بآرائه، وتضمينها ما يقدّم من تقارير وأخبار، وصولاً إلى حد الكذب التام، حارفاً الجمهور عن الحقيقة تماماً. كما يتحمّل رؤساؤه والمؤسسة التي يعمل فيها مسؤولية أكبر؛ إذ لا تقيم الاعتبارات المهنية، ولا تصون المبادئ التحريرية، ولا تضع السياسات والإجراءات الواجبة لضمان الوصول إلى تغطية عادلة تفصل الرأي عن الخبر، وتعلي حقّ الجمهور في المعرفة السليمة والحصول على الحقائق بأكبر قدر ممكن من التجرّد والدقّة.لكن الإعلامي في الميدان، ورئيسه في غرفة الأخبار، والمؤسسة التي يعملان لها ليسوا جميع المقصرين في هذا الصدد؛ فثمة مقصر كبير، ومخطئ يتحمّل من المسؤولية قدراً لا يستهان به... إنه أنت؛ الجمهور الذي يكافئ الأداء المنحرف أحياناً، ويحول هؤلاء الذين يتبنون المواقف، ويصدرون الأحكام خلال نشرات الأخبار وفي القصص الإخبارية نجوماً، وهم في الواقع ليسوا إلا هواة غير متمكنين من أدواتهم المهنية، أو مغرضين ووكلاء لأصحاب المصالح والأهواء.* كاتب مصري