لم يكن ما حصل في «ساحة النسور» في بغداد وما يجري من عنف في العراق بمعزل عن خطة التقسيم التي تمتد إلى عقود من الزمان، وهو ما بشّر به كيسنجر وبريجنسكي في الستينيات من القرن الماضي، حين نظّرا إلى فكرة دويلات مصغرة، وإنْ كانت مجهرية أحادية التكوين، طائفية أم دينية أم رقية.سرق مشروع المرشح للرئاسة الأميركية السناتور الديموقراطي جوزيف بايدن بشأن تشطير العراق، الضوء عن مجزرة «ساحة النسور» ببغداد التي قامت بها شركة «بلاك ووتر» وما أثارته من جدل سياسي وقانوني امتدّ نحو أسبوعين، عن حصانتها القانونية وعدم خضوعها للقانونين العراقي والأميركي.
وقد يذهب بعضهم الى أن هناك ترابطاً بين ما تقوم به شركات الحماية الأمنية الخاصة وما طرحه بايدن كمشروع لتقسيم العراق إلى ثلاث مناطق وفقاً للصورة النمطية التي جرت محاولات مستميتة لتكريسها في الأذهان قبيل غزو الكويت في 2 أغسطس عام 1990 وما بعدها، ونعني بذلك تعويم الدولة العراقية المركزية عن طريق التآكل التدريجي باستمرار الحصار الدولي، وتبهيت الهوية العراقية وتشطيرها وفقاً لاعتبار غير سياسي، أي طائفي أو مذهبي أو عرقي أو غير ذلك إلى شيعة، وسنّة، وأكراد.
ولم يكن ما حصل في «ساحة النسور» وما يجري من عنف في العراق بمعزل عن خطة التقسيم التي تمتد إلى عقود من الزمان، وهو ما بشّر به هنري كيسنجر وزبيغنيو بريجنسكي (مستشاران سابقان للأمن القومي الأميركي) اللذان عملا في تروست الأدمغة في الستينيات من القرن الماضي، ونظّرا لفكرة دويلات مصغرة وإنْ كانت مجهريّة، أحادية التكوين، طائفية أم دينية أم عرقية.
وإذا كان المشهد تراجيدياً في كل الأحوال، فلعل فيه جانباً سيريالياً أيضاً، ففي حين يتم اختزال الدولة المركزية في نظام حكم صدام حسين، يجري تصوير المسألة وكأن الخلاص من الدولة المركزية «الدكتاتورية» هو بالتقسيم باعتباره حلاً لمشكلة الحكم التاريخية في العراق من جهة، ولقضية الإرهاب حالياً من جهة ثانية، وهكذا بمعادلة اختزالية يتم اسقاط العوامل الموضوعية والذاتية التي ساهمت في جعل الدولة العراقية «أقلوية»، خصوصاً بضعف الهياكل والتراكيب وجنينية التجربة الديموقراطية الأولى وتعاظم نواقصها وثغراتها وعدم اعترافها بحقوق كيانات وتكوينات كالأكراد مثلاً، إضافة إلى التمييز في قوانين الجنسية منذ تأسيس الدولة العراقية، ودور الجيش في العهود الجمهورية وتدخلّه في السياسة لدفع البلاد في طريق الحكم الشمولي الاستبدادي الشديد الصرامة والمركزية، مع بيئة دولية وانقسام عالمي بين معسكرين في فترة الحرب الباردة ساعدا في ذلك.
إذا كان تقسيم العراق له مبرراته أميركياً، خصوصاً من الناحية العسكرية والاقتصادية وما يعكسه تصويت الكونغرس الأميركي بأغلبية كبيرة (75 صوتاً مقابل 23 صوتاً) من توافق غريب بين الديموقراطيين والجمهوريين ولمناسبة نادرة وفريدة تتعلق بالعراق، فهل هناك مبرر عراقي للسكوت عن هذه القضية وتداعياتها وتفسيراتها، رغم أن الدستور الدائم كان قد تحدث عنها، وإن كان بطريقة مختلفة، ونعني بذلك إقراره بمبدأ الفدرالية كنظام عام للعراق، رغم الاختلاف حول حدودها وآفاقها وصلاحيات الأقاليم إضافة إلى مستقبلها وما يرتبط بها من أطماع وتداخلات محلية وخارجية.
ولعل الكثير من مواد الدستور في ما يتعلق بصلاحيات الأقاليم مصدر خلاف جوهري بين الأطراف العراقية من داخل العملية السياسية ومن خارجها، خصوصاً ما يتعلق بتنازع قوانين السلطة الاتحادية مع قوانين سلطات الأقاليم، وبتوزيع الثروة واستثمارها بما له علاقة بالموارد الطبيعية، وبشكل خاص النفط والغاز في الحقول غير المستغلة.
ورغم إقرار قانون الأقاليم في البرلمان العراقي، فإنه أُجّل ثمانية عشر شهراً بسبب الاحتجاجات عليه ورفضه من أوساط واسعة، وظلّ الطرف الذي يتمسك بالفدرالية باستمرار، هو الحركة الكردية. ويسري الاعتقاد أن سلطة مركزية قوية قد تعيد شبح الدكتاتورية والتسلّط، ومن الجانب الآخر وهو ما ينسجم مع مشروع جوزيف بايدن، فإن تشطير العراق الى ثلاث مناطق أو أكثر يحول دون عودة الدكتاتورية، بل إنه يساهم في القضاء على الإرهاب، ومن جهة أخرى تتقطع أوصال البلد ويتحوّل إلى جزر معزولة وأجزاء مجتزأة ومناطق محميّة وجدران عالية، طائفية وإثنية ومناطقية وعشائرية، ويسيل الدم العراقي بغزارة لا حدود لها، ويستمر تشاحن المسؤولين على المناطق والنفوذ والامتيازات ويستشري الفساد ... إلخ.
لعل تصويت الكونغرس على قرار التقسيم أعاد خلط الأوراق مجدداً على المستوى العراقي والعربي بما له علاقة بالدولة العراقية ومستقبلها، وقد جاء الرد العراقي شديداً وإن تفاوت في الموقف والممانعة، مثلما كان الرد السعودي بالرفض على لسان وزير خارجيتها، وكذلك رد الجامعة العربية ودول أخرى.
لكن التنديد وحده لا يعالج المشكلة ولا يضع حداً لـ«مشروع بايدن» الذي قد تنتقل عدواه الى دول الجوار العربي والإسلامي، خصوصاً أن له تاريخاً طويلاً، وقد فتح الباب لتدخلات خارجية أكبر ليس على صعيد الاحتلال فحسب، بل على الصعيد الإقليمي، فبعض القيادات التركمانية مثلاً رفض المشروع وفي حالة تنفيذه قد يدعون إلى الاستقلال بمناطقهم بالاستعانة بتركيا، وقد تضطر أطراف «شيعية» محسوبة على إيران الاستعانة بها سواء بقيت الدولة العراقية موّحدة شكلياً أو حصل نوع من الاستقلال أو الانفصال الفعلي!
كانت معاهدة «سايكس– بيكو» 1916 تحضيراً سرّياً لتقسيم الدول العربية بعد القضاء على الإمبراطورية العثمانية، وكان «وعد بلفور» 1917 المقدمة الأولى لاغتصاب فلسطين، فهل سيكون سؤال «غراهام فولر» 1992 من مؤسسة «راند» الأميركية: «هل سيبقى العراق موحداً إلى عام 2002 ؟» مقدمة استبطانية واستشعارية للتقسيم أم أنه سيكون الوعد بالخلاص، وتحقيق النعيم والرفاهية وربيع الديموقراطية، الذي سيحلّ على العراقيين وربما على دول المنطقة مثل وعود اجتياح العراق التي تحوّلت الى كوابيس وأضغاث أحلام!؟
* كاتب ومفكر عربي