حين يحرّم فقيه «القاعدة» ومنظرها الأول سيد إمام عبد العزيز الشريف مهاجمة الغرب في عقر داره، فإنه يرسخ لاتجاه مغاير لذلك الذي سلكه المتطرفون الإسلاميون، على مستوى الفكر والممارسة معا، حيال العالم الغربي الذي يناصبونه العداء، لأسباب عديدة، بعضها يضرب بجذور مديدة في التاريخ ليعود إلى أيام الحروب الصليبية، وبعضها يتعلق بالوضع الراهن ويعود بالأساس إلى الاحتقان من الممارسات السياسية الأميركية ـ الأوروبية في العالمين العربي والإسلامي.

Ad

وانطوى هذا الاتجاه منذ المنشأ على صورة ذهنية كلية جامدة للغرب، بدأت باعتباره مجتمعا منحلا وجاهليا، وانتهت إلى التعامل معه بوصفه «العدو». وبعد أن كان الغرب يظهر في كتابات الرعيل الأول للنهضة العربية الحديثة من أمثال رفاعة رافع الطهطاوي وقاسم أمين وأحمد لطفي السيد... إلخ بوصفه منهلاً للتنوير والتحديث، أخذت كتابات الآباء المؤسسين للراديكالية الإسلامية وفي مقدمتهم سيد قطب تسلط عدسات مقعرة على مثالب الغرب وأخطائه، فيظهر في صورة المجتمع الساقط الملحد الذي لا يقيم وزنا للفضائل الأخلاقية ولا القيم الدينية، ولا يلتفت كثيرا إلى الامتلاء الروحي.

وامتلأت أدبيات الإسلاميين الراديكاليين بمصطلحات تعبر عن هذا التصور من قبيل «الغرب الكافر» و«الغرب الصليبي» و«الغرب الجاحد». ووجدت هذه التعبيرات صدى واسعا مع ظهور اتجاهات غربية تريد أن تجعل من العرب والمسلمين عدواً بعد انهيار الاتحاد السوفييتي نهاية الثمانينيات من القرن المنصرم، ثم مع قدوم الجيوش الغربية إلى المنطقة عقب الاحتلال العراقي للكويت. وانتقل هجوم المتطرفين الإسلاميين على الغرب من أضابير الكتب وصفحات الوثائق إلى ساحات القتال.

ولم تنشأ عملية الانتقال تلك في فراغ بل وجدت لها إطارا فقهيا يحكمها، وكانت آراء واجتهادات سيد إمام عبد العزيز الشريف في قلب هذا الإطار العام. وانتقل الأمر من القول إلى الفعل فشاهدنا عمليات كبرى ضد القوات الأميركية في منطقة الخليج العربي ابتداء من حادث الخُبر عام 1995 وانتهاء بضرب البارجة «كول» بخليج عدن في أكتوبر من عام 2000، وبينهما العديد من الأحداث والحوادث الصغيرة.

ثم اتجهت العمليات اتجاها فارقا، حين قرر تنظيم القاعدة أن ينقل «القتال» إلى أرض «العدو» فجاء ضرب برجي مركز التجارة العالمي في 11 سبتمبر من عام 2001، ثم تفجير قطارات مدريد في 2004، ومهاجمة محطات مترو الأنفاق بلندن في 2006، وهذا الانتقال بقدر ما قضته ضرورة استراتيجية في أذهان قادة القاعدة فقد بررته آراء فقهية، حول نقل المعركة إلى أرض «الأعداء»، واستحلال دمائهم وأموالهم.

ورغم الضربات القوية التي تلقاها «القاعدة» في ظل التداعيات التي ترتبت على حدث 11 سبتمبر فإنه لم يفقد القدرة على تنفيذ عمليات في أوروبا، ولم يتخل عن هذه الاستراتيجية، بل أصر عليها إصرارا بان للعيان في خطب وأحاديث أسامة بن لادن ومساعده الأول أيمن الظواهري، التي حفلت بتهديدات متكررة في هذا الشأن، لم يتعامل معها المسؤولون في الغرب بوصفها فرقعات إعلامية أو عنتريات فارغة، بل أخذوها على محمل الجد، وحسبوا حسابها بدقة، وأعدوا العدة لمواجهتها، أمنيا وعسكريا وإعلاميا، بل وظفوها في إقناع شعوبهم بأهمية استمرار الحملة ضد «الإرهاب الدولي».

ومن هنا، فإن اجتهادات الدكتور فضل التي تحرم مهاجمة الغرب في عقر داره تنال من الاستراتيجية التي يتبعها تنظيم القاعدة حاليا، وترده على المستوى النظري إلى المربع الأول، أي إلى ما قبل 11 سبتمبر بكثير. أما على المستوى العملي فإن تنظيم القاعدة كان يغلب في توجهه هذا الضرورة الاستراتيجية على التبرير الفقهي، ولذا فلن يقف طويلا أمام هذه الاجتهادات، بل قد يجد في تلك الجزئية منها ما يشيع به أن مراجعات فضل ترمي إلى خدمة «العدو»، بل ربما صنعت على عينيه، الأمر الذي يخدم الاتجاه الذي يرمي إلى التشكيك في تلك المراجعات من أساسها، أو تجريحها للتقليل من آثارها المنتظرة.

* كاتب وباحث مصري