Ad

لم تكن القدس يوماً حاضرة لخلافة أو مملكة إسلامية، ورغم ذلك كانت، وما برحت، أحدى أشهر الحواضر الإسلامية وأبعدها وأكثرها استقطاباً لمشاعر المسلمين حول العالم. تعددت مسمياتها منذ دخلها العرب الفاتحون عام 15هـ(638م)، فهي القدس الشريف وبيت المقدس والحرم القدسي، وهي لدى اليهود والنصارى أورشاليم المقدسة.

في الأصل كانت القدس مدينة عربية عرفت باسم «يبوس» نسبة لسكانها من اليبوسيين الكنعانيين ويقال إنهم سموها أيضاً بساليم وهو اسم إله كنعاني أو حسبما يذكر الفيروزبادي أن شلم أو شاليم هو اسم البيت المقدس.

وقد اختار اليبوسيون لمدينتهم موقعاً يتمتع بحصانة طبيعية أتاحت لهم الدفاع عنها ضد أطماع جيرانهم من القبائل المختلفة، فهي تقع على هضبة ترتفع نحو 750م عن سطح البحر، وتنحصر القدس بين تلين مستطيلين متوازيين من الشمال إلى الجنوب ولها أربع قمم وهي قمة أكرا في الشمال الغربي وصهيون في الجهة الغربية وموريا في الشرق وأخيراً صخرة بزيتا في الشمال الشرقي، ورغم أن الوديان السحيقة تحميها من خطر الغزوات إلا أن اليبوسيين شيدوا سوراً دفاعياً لمدينتهم التي كانت قادرة على احتمال أي حصار عسكري بفضل عين ماء بداخلها وزراعات على سفوح جبالها الخصبة.

وفي نحو عام 1006ق.م نجح داود الملك في الاستيلاء على يبوس وأخذ اليهود لأول مرة في الإقامة بها وإن لم ينجح في طرد سكانها من اليبوسيين، ومن بعده قام سليمان بتعمير سور المدينة، ثم إنشاء الهيكل الذي ترددت أوصافه المعمارية في الروايات التاريخية، وظلت السيادة على القدس تنتقل من الآشوريين إلى المصريين إلى أن قام الملك البابلي نبوخذ نصر بحصارها والاستيلاء عليها في عام 593 ق.م وقبض على يهويا، قيم ملكها وكل رجاله وسباهم إلى بابل وأحرق الهيكل وحمل كل أغشية الذهب الموجودة به وترك المدينة خراباً يباباً، ثم أعاد البابليون الكرة وأحرقوا المدينة مرة أخرى بعد نحو عشر سنوات وبعد السبي البابلي انتهى الوجود اليهودي في فلسطين نهائياً ولم يتمكن اليهود من استعادة كيانهم السياسي بل عاشوا مجرد طائفة دينية يرأسها كاهن.

فقد سمح الفرس الذين استولوا على القدس في عام 526 ق.م لليهود بالعودة إليها من بابل وقاموا بأعمال محدودة وبطيئة لتعمير المدينة في عهد نحميا الحاكم الذي عينه الفرس عليها، ووقعت المدينة بعد ذلك في قبضة الإسكندر الأكبر سنة 334 ق.م وبقيت بحوزة الدولة السلوقية ثم البطالسة بدءاً من 312 ق.م.

وخلال العهود اليونانية سادت الآداب واللغة اليونانية في القدس، وفشلت ثورات اليهود الرامية إلى الاستقلال بالمدينة التي اختلطت فيها القبائل المختلفة مع النخب اليونانية.

أما في العصر الروماني فقد شهدت القدس أحداثاً جساماً، منها إعادة بناء الهيكل على يد هيرود الكبير وحصار القدس في عام 70م بعد تمرد اليهود بها وقام القائد الروماني تيطس باقتحام المدينة وتدميرها بعد أن هدم الهيكل وقام بحرث أرضه، وأصبح للمدينة اسم روماني جديد هو «إيليا كابوتلينا»، وبقيت تعرف باسم إيليا إلى وقت الفتح العربي.

وقبل أن تفتح القدس كانت قد وقعت تحت الاحتلال الفارسي بعض الوقت، ثم استعاد هرقل البيزنطي السيادة عليها، وقد حاصرتها جيوش المسلمين بقيادة أبي عبيدة بن الجراح وخالد بن الوليد واختار بطريرك إيلياء صفرونيوس أن يسلم المدينة بعد حصار دام أربعة أشهر ولكنه اشترط أن يكون متسلمها هو الخليفة عمر بن الخطاب بنفسه.

وحضر الخليفة بالفعل وتسلم مفتاح المدينة وزار كنيسة القيامة ولما حان موعد الصلاة طلب منه البطريرك أن يؤديها حيث كان، فرفض عمر حتى لا تكون سُنّة لمن يأتي بعده وأقام صلاته على درج كنيسة قسطنطين وقد شيد المسجد العمري في ما بعد على مقربة من هذا المكان، وأعطى الخليفة العهدة العمرية لصفرونيوس وهى مسجلة على «الرق» ومن أهم ما جاء بها تأمين سكان القدس على أرواحهم وأموالهم وكنائسهم وكفالة حرية العبادة لهم والاستمرار في منع إقامة اليهود بها وفقاً لما طلبه البطريرك صفرونيوس من الخليفة عمر بن الخطاب.

ومنذ افتتاحها توالت أعمال البناء والتعمير بالقدس فشيد أولاً على عهد عمر بن الخطاب المسجد الأقصى ولكنه جاء بناءً بسيطاً محدود المساحة، فلما تولى معاوية بن أبي سفيان الخلافة ودانت السيطرة للأمويين واتخذوا من دمشق حاضرة للخلافة الأموية وقع الاهتمام بإعادة بناء المسجد الأقصى وكان ذلك في عهد الوليد بن عبدالملك (97هـ/715م) وأعيد تجديده غير مرة طوال العهود الإسلامية.

وقام عبدالملك بن مروان قبل ذلك بإنشاء قبة الصخرة تكريماً لتلك الصخرة التي عرج من عليها بالرسول الكريم (صلى الله عليه وسلم) إلى السماوات العلى، ويقال إن عمر بن الخطاب كان أول من فكّر في حماية الصخرة فأمر بإنشاء ظلة من فوقها شيدت بالأخشاب، وبقيت الظلة في مكانها إلى أن قام عبدالملك بن مروان في عام69هـ (688م) بالشروع في إنشاء القبة والتي استمر العمل بها حتى افتتحت في عام 72هـ (691م).

وقبة الصخرة اليوم هى أحد المعالم الرئيسية للقدس وهى بلا جدال عمل معماري وزخرفي فذ يتميز بهيئة فريدة لم يسبق إليها أحد من قبل.

ومبنى القبة عبارة عن قاعة واسعة من ستة أضلاع ترتفع فوقها قبة نصف دائرية جميلة تقوم على هيكل من الخشب غشيت خوذة القبة من الداخل والخارج بالجص المزخرف وطليت خوذة القبة من الخارج بصفائح مذهبة.

وبداخل المبنى الصخرة المشرفة وقد أحيطت ببائكة تدور حولها تقوم عقودها المدببة على دعائم حجرية وأعمدة رخامية بالتبادل، وفوق عقود البائكة يقوم جدار مستدير مرتفع زين بالزخارف الجصية وأيضاً بالفسيفساء الزجاجية المذهبة والملونة، وفوق هذا الجدار تقوم رقبة القبة التي فتحت بها نوافذ مستديرة غشيت بالجص المعشق بالزجاج الملون، وفي ما بين هذه البائكة والجدار الخارجي السداسي الأضلاع يوجد مطاف جميل يدور حول الصخرة وقد غشيت الجدران الخارجية لقبة الصخرة بالرخام إلى ارتفاع النوافذ ثم غطيت بعد ذلك بالفسيفساء ذات البريق الزجاجي والقاشاني التركي وهو من تجديدات سليمان القانوني.

وقد أدى وقوع القدس في أيدي الصليبيين عام 1099م إلى تخريب معالمها الإسلامية وإشاعة الفوضى والدمار بها إلى أن استعاد صلاح الدين الأيوبي السيطرة عليها بعد معركة حطين الشهيرة، ولم تستعد القدس رونقها كحاضرة إسلامية إلا على يد المماليك، حيث اهتم سلاطين هذه الدولة وأيضاً نوابها على القدس بشحن المدينة بالعمائر، فتعددت بها المساجد والقصور وشيدت بها أعداد كبيرة من المدارس التي خصصت لتدريس الفقه على المذاهب السنية الأربعة وأفرد بعضها لتدريس الحديث النبوي الشريف، ولم تتوقف جهود الإعمار عند منشآت سلاطين وأمراء المماليك بل إن التجار من مصر والشام ساهموا بنصيب ملحوظ في إقامة المنشآت التعليمية ورصد الأوقاف للإنفاق على عملها ولعل ذلك يشير في جانب منه إلى المكانة العلمية الكبيرة للقدس الشريف حيث صارت المدينة مقصداً للعلماء والمتصوفة للإقامة بها وكان هناك ثمة تقدير مملوكي خاصة لقدسيتها، فكانت منفى بعض أمراء المماليك ينعمون بالعيش فيها في مأمن أكيد من غضبة السلطان أو غدره.

وقد وجه خلفاء الأتراك العثمانيين عناية فائقة لعمارة القدس وخصوصا للحرم القدسي الشريف، إذ تعددت منشآتهم من المدارس والقباب وأسبلة الماء، إضافة إلى الاهتمام بتنظيم النواحي العمرانية بها كالطرقات والمنازل والمنشآت الحكومية والتجارية.

واضطر الأتراك إلى الانسحاب من المدينة في 9 ديسمبر 1919 لتدخلها القوات البريطانية ونشبت مذ ذاك الصراعات في ما بين سكان المدينة والمستوطنين اليهود حول حائط البراق أو حائط المبكى، ورغم أن عصبة الأمم أكدت أن الحائط من حقوق الوقف الإسلامي فإن سلطات الاحتلال البريطاني أخذت تمكن العصابات الصهيونية للإقامة بالقدس وشراء الأراضي بها.

وفي عام 1948 كان الجزء الغربي من القدس قد خضع للاحتلال الإسرائيلي بينما بقيت تحت الإدارة الأردنية الأجزاء الشرقية وهي تضم القدس القديمة والأحياء الجديدة في باب الساهرة والشيخ جراح ووقعت تلك في أيدي الإسرائيليين عقب عدوان يونيو 1967.

وتواجه القدس إلى اليوم محاولات الصهيونية لطرد سكانها من العرب ولتغيير طابعها العربي بالعدوان المستمر على معالمها المسيحية والإسلامية على حد سواء ولكن يظل صمودها معلماً ثابتاً من معالم سيرتها التاريخية.