مراكز وأطراف

نشر في 16-03-2008 | 00:00
آخر تحديث 16-03-2008 | 00:00
 ياسر عبد العزيز

كما نجحت دول الأطراف العربية، التي ظلت تعاني الخلل في التدفق الإخباري عقوداً، في تطوير وسائل إعلام معتبرة، بما أسهم في تحويلها من دول عجز إلى دول وفرة إعلامية، ومن متلقٍ صاغر إلى مصدر واثق يحظى منتجه بالطلب الوافي، يمكن أن ينجح العالم العربي كله في تغيير وضعه ليحتل مكانة مركزية.

ظلت دول عربية غنية سنوات طويلة تهاب صناعة الإعلام، وتعتقد، لأسباب غير معلومة، أن هذه الصناعة مقصورة على دول بذاتها، وأن الثراء والإعلام لا يجتمعان. ويبدو أن هذه الدول دفعت أثماناً كبيرة بسبب هذا الموقف، وبعضها تعرض للابتزاز، أو تضررت مصالحه تضرراً واضحاً من جراء عدم امتلاكه أدوات إعلامية محلية أو إقليمية ذات قدرة واعتبار.

وفي هذا الإطار، راحت تلك الدول الغنية، برؤى متواضعة وأهداف خجولة، تنشئ صناعة إعلام محلية، مستعينة في تطويرها بكوادر وافدة، من ناحية، وتحاول أن تشتري ود وسائل إعلام إقليمية نافذة بعينها، لتحسن صورتها في الخارج أو تتفادى توجيه النقد لها، من ناحية أخرى.

وعلى مدى أكثر من عقدين ظلت تلك الدول الغنية تدفع الكثير في تمويل إعلام داخلي محدود التأثير، وتدفع ما هو أكثر في تمويل إعلام إقليمي تمتلكه دول أخرى بأجندة مصالح وأولويات قد تختلف أو تتعارض مع مصالحها ورؤاها.

ولما كان الوضع متفاقماً ولا يمكن السكوت عليه، فقد اتخذت تلك الدول الخطوة الضرورية والمنطقية؛ فبدأت في تطوير وسائل إعلامها المحلية، بإنفاق بدا أحياناً لا يحده حد من جهة، وعملت على تطوير وسائل إعلام إقليمية أو دولية، تستهدف المواطنين العرب جميعهم في المنطقة وخارجها في مناطق العالم وقاراته المختلفة.

وفي فترة زمنية قصيرة بدا أن خريطة المنطقة تغيرت من الناحية الإعلامية؛ لتتحول دول المركز إلى أطراف، بينما تتحول دول من الأطراف إلى مراكز.

وبات الحديث عن تدفق إعلامي عربي-عربي مختل صالحاً لإعادة الإنتاج، خاصة في ما يتعلق بالأجندة الإخبارية، لكن هذه المرة جاء الاختلال لمصلحة الدول التي ظلت تعاني مشكلاته عقوداً، وفي غير مصلحة الدول التي طالما تمتعت بالانفراد بالساحة وتصدر المشهد في غياب أي منافسة جادة من الآخرين.

والواقع أن هذا التطور، الذي يبدو أنه محل اتفاق كبير بين الكثير من العاملين في الإعلام والمطلعين على أحواله، يظل صالحاً للبناء عليه، ودافعاً قوياً نحو اجتراحه على صعيد آخر يتعلق بالتدفق الإخباري العربي- الدولي المختل أيضاً.

فكما نجحت دول الأطراف العربية، التي ظلت تعاني الخلل في التدفق الإخباري عقوداً، في تطوير وسائل إعلام معتبرة، بما أسهم في تحويلها من دول عجز إلى دول وفرة إعلامية، ومن متلقٍ صاغر إلى مصدر واثق يحظى منتجه بالطلب الوافي، يمكن أن ينجح العالم العربي كله، باعتباره طرفاً يقتات على ما تنتجه المراكز الإعلامية العالمية، في تغيير وضعه، ليحتل مكانة مركزية، أو على الأقل تحسينه، ليقلل العجز الصريح في اعتماده الإعلامي على قدراته الذاتية.

وعلى غير ما يعتقد بعضهم، فإن عدم تطوير القدرة الإعلامية العربية في مخاطبتها للآخر في سياقاته وصوره المختلفة يصيبنا بخسائر ربما تماثل تلك التي نتكبدها بسبب تراجعنا في ميادين الصناعة أو الخدمات أو العسكرية أو الدبلوماسية مقارنة بالدول والتجمعات الإقليمية الأخرى.

لكن السؤال يُطرح مراراً: من أين نبدأ؟ كما أن الهواجس ذاتها تتكرر: وماذا عن الكوادر والتقنية والموارد؟

علينا أن نبدأ من الصناعة الثقيلة في الإعلام، حيث وكالات الأنباء؛ المؤسسات الكبيرة المسؤولة عن تزويد الوسائل بالخدمات. لكن علينا أن ننشئ وكالات بمفهوم القرن الحادي والعشرين؛ كمؤسسات اقتصادية-إعلامية، تستخدم أعلى التجليات التقنية، في جمع الأخبار، وتجهيزها، وتصنيفها، وترجمتها، وتوزيعها عبر العالم. وكمؤسسات تلتزم معايير الجودة والسبق والمصداقية، ولا تقصر عملها على توزيع الأخبار فقط، لكنه يتسع ليشمل إنشاء وسائل إعلام أخرى، وإنتاج خدمات مطبوعة أو إلكترونية أو عبر الهاتف، بلغات العالم معظمها. كما يجب أن تمتلك هذه الوكالات مراسلين ومكاتب في أنحاء من العالم كبيرة، ووسائل لقياس الرأي العام، وإجراء المسوح الميدانية، ومؤشرات اقتصادية لتقييم أحوال الاقتصاد وأداء قطاع البورصات النشيط.

أما في ما يتعلق بالهواجس، فليس هناك مشكلات يمكن أن تكون عثرة حقيقية أمام تطوير تلك الصناعة؛ فالتقنية متوافرة ولا تخضع لأي نوع من الحماية. ويمكن لأي بلد عربي، متى قرر، أن يستورد فوراً التقنيات نفسها التي تستخدم في أرقى المؤسسات الإعلامية العالمية، كما يمكنه أن يحصل على خبرات عاملين بأي موقع بالعالم، لتشغيل تلك التقنيات، أو تدريب آخرين لاستخدامها على الوجه الأمثل.

وفي ما يتعلق بالأموال؛ فإن دولاً عربية غنية أو فقيرة تمتلك القدرات المالية اللازمة لإطلاق مثل هذه المؤسسات، وبعض هذه الدول أنفق أموالاً طائلة في مغامرات لا طائل منها ولا نفع، كما أن بعضها لا يمانع أبداً في تمويل مثل هذا العمل، خصوصاً أن معظم المؤسسات الإعلامية العالمية، التي تعمل وفق المعايير المهنية، تحقق أرباحاً من التشغيل ربما تفوق تلك التي تحققها شركات كبيرة وشهيرة ولديها أسهم تتداول في البورصات.

علينا أن نقف ونفكر ونسأل أنفسنا: لماذا لا يفهمنا الآخر؟ لماذا لا يحترمنا بالقدر الكافي؟ لماذا يتجرأ علينا؟ لماذا يصورنا على هذا النحو المهين؟ ونحاول جميعاً أن نجيب عن هذه التساؤلات، لكن قبلها يجب أن نسأل أنفسنا بصدق سؤالاً أهم غاب في غمرة الأحداث: وماذا فعلنا لنتفادى كل هذا؟

* كاتب مصري

back to top