كشف حساب كرامة الإنسان!
ساعد الإعلان العالمي لحقوق الإنسان على نمو الوعي بالإنسان وكرامته، ولكنه وعي ظل حبيساً للنص منغلقاً عليه، ولم يتمكن العالم حتى الساعة من القيام بما يُفترض أن يقوم به في سبيل تحرير الإنسان من الخوف والفقر
كيف كان سيكون العالم اليوم لو أن الصعوبات والعراقيل التي ظهرت في وجه صدور الإعلان العالمي لحقوق الإنسان نجحت في إيقافه عند حده ومنعته من الظهور؟ هل كانت أوضاع الإنسان وكرامته المهدورة ستكون اسوأ مما هي عليه الآن؟ وما هو كشف الحساب المنصف والموضوعي لمسيرة حركة حقوق الإنسان خلال الستين عاماً الماضية؟خلال العقود الستة الماضية أصبحنا اليوم نتعامل مع احترام كرامة الإنسان وحقوقه كمفاهيم مقبولة، بل وتكاد تكون من المسلَّمات التي تقاس بموجبها وعلى أساسها مكانة الدولة واحترامها. ومع أن حقبة الحرب الباردة وحالة الاستقطاب الثنائي على الساحة الدولية التي استمرت ربما منذ صدور الإعلان وحتى خروج الاتحاد السوفييتي من حلبة الصراع الدولي اتسمت بتسييس مفرط لحقوق الإنسان وضاعت فيها كرامة الإنسان تحت أقدام السياسة والصراع الدولي. وبالمقابل شهدت هذه الحقبة بدايات النمو لحركة مهمة وفاعلة من المنظمات الدولية غير الحكومية بدءاً بالفيدرالية الدولية لحقوق الإنسان ثم منظمة العفو الدولية التي أسست مرجعيتها على بنود ومفاهيم الإعلان.وما إن انتهت الحرب الباردة حتى تجدد أمل غير مسبوق بالبدء بحقبة تسودها المفاهيم الإنسانية تصادف خلالها غزو العراق للكويت واستخدمت فيها حقوق الإنسان المنتهكة في الكويت المحتلة لإحقاق الحق، وكان من المرات النادرة في التاريخ التي تزاوج فيها الحق مع القوة. ودخل العالم في مرحلة من التفاؤل، وتحدث المتفائلون عن نظام دولي جديد وبرزت مفاهيم جديدة؛ كالتدخل الإنساني الحميد في عملية إراحة الشمال وإراحة الجنوب في العراق، ثم عملية «إعادة الأمل» في الصومال، حتى وصلنا الى المؤتمر العالمي لحقوق الإنسان الذي عُقد في يونيو من عام 1993 في العاصمة النمساوية فيينا. وقد جرى تحول ملحوظ لعشرات الدول إلى أنظمة ديموقراطية في القارات كافة بدءاً بأوروبا الشرقية ومروراً بآسيا وأفريقيا وأميركا اللاتينية حتى زاد عدد تلك الدول المتحولة عن 60 دولة. بالطبع كان الاستثناء الدائم والمزمن في تلك التحولات هو المنطقة العربية، وكأنها منطقة محصّنة ضد التحولات.ولا يبدو أن ذلك التفاؤل كان مستنداً إلى قواعد راسخة، فبدأ العالم يبحث عن أدوات جديدة للصراع بقيادة الولايات المتحدة، بدلاً من تطوير حالة الإنفراج الإنساني إلى شيء أكثر تماسكاً. ومع أن تلك التحولات قد أسهمت في زيادة عدد وفعالية وتأثير المنظمات غير الحكومية في المجال الانساني، فإن حالة من الضياع الدولي أدخلتنا في آتون من نوع آخر. ومع أن تلك الحقبة قد شهدت سقوط إحدى أبرز قلاع العنصرية في التاريخ الحديث، وهي جنوب أفريقيا العنصرية، فإن ذلك لم يكن وقوداً كافياً لاتعاظ الدول الكبرى وتحويلها إلى وضع كرامة الإنسان كأساس للعلاقات بين الدول. ومع أن الأمل والتفاؤل قد عاد مجدداً مرة أخرى وتعزز بصدور اتفاقية روما التي أنشأت المحكمة الجنائية الدولية في 1998، فإن تعنتاً مؤسفاً مارسته الولايات المتحدة ومجموعةالدول العربية وإسرائيل ضد تلك الاتفاقية كان مؤشراً على أن المسيرة لازالت تتعثر. حتى حل علينا الحادي عشر من سبتمبر في مانهاتن نيويورك وضرب مقر البنتاغون ومحاولة ضرب البيت الأبيض بواشنطن دي. سي.وللأسف، فإن ذلك الحدث كان إيذاناً بالبدء في مرحلة تراجع جديدة تحت شعار الحرب الكونية على الإرهاب، التي كان من مؤشراتها ضرب أفغانستان ثم ضرب العراق ووجود معتقل غوانتانامو وقاعدة باغرام وأبو غريب والسجون السرية أو الطائرة، بل إن الأمر تعدى ذلك إلى صدور حزمة من الإجراءات التي قامت بموجبها أكثر من 88 دولة باستحداث إجراءات منافية لمفاهيم حقوق الإنسان في دساتيرها تحت شعارات مكافحة الإرهاب. وقد أدركت حركة حقوق الإنسان خطورة ذلك الأمر فأسست لجنة حقوق الإنسان تفويضاً ومقرراً خاصاً لمتابعة ورصد أوضاع حقوق الإنسان في إطار مكافحة الإرهاب، كما أطلقت اللجنة الدولية للحقوقيين مشروعاً بحثياً وحركياً في الموضوع ذاته، كما قامت منظمة العفو الدولية بحملات مكثفة حول الموضوع ذاته مع تركيزها بشكل ملفت على موضوع غوانتانامو. ويلاحظ على هذه الحقبة أن المنتهكين لحقوق الإنسان لم يعودوا دولاً فقط، بل أصبح من يقوم بذلك جماعات مسلحة ترفع شعارات دينية أو قومية ما أضاف تعقيدات لا أول لها ولا آخر.ولربما لم يكن في ذهن المدافعين عن حقوق الإنسان أن يتم الانتقاص من حق الرقابة القضائية على اعتقال المتهمين في القرن الحادي والعشرين بالصورة التي تتم اليوم في إطار مكافحة الإرهاب.كان الأمل في عام 1998 أن تكون المرحلة التي تليها هي محاسبة الدول على انتهاكها لحقوق الإنسان في إطار دولي صارم، وربما كانت النتيجة في تأسيس مجلس حقوق الإنسان في يونيو 2006، ولكنها تظل عملية لازالت تحوم حولها الشكوك فهي في مراحلها الأولى وأقل من المطلوب.وهكذا... فإن الإجابة على سؤالنا الأول هو من النوع المتردد أكثر منه يقينياً. فقد ساعد الإعلان على نمو الوعي بالإنسان وكرامته، ولكنه وعي ظل حبيساً للنص منغلقاً عليه، ولم يتمكن العالم حتى الساعة من القيام بما يُفترض أن يقوم به في سبيل تحرير الإنسان من الخوف والفقر ويرفع من سقف حريته في التعبير والقول.ومع ذلك أوجد لنا الإعلان جيشاً من المناضلين الحقيقيين الذين ضحوا ولازالوا يضحون بأرواحهم في سبيل أن يكون للإنسان كرامة. وسيظل هؤلاء، أفراداً ومؤسسات، رقماً صعباً في مواجهة الطغيان والديكتاتورية والتعصب والتطرف.نعم لازال الإنسان وكرامته في ورطة، ولازالت حقوق الإنسان منتهكة، ولكن الإعلان قد وضع الإطار، وصدرت على إثره واستناداً إليه عشرات الوثائق والاتفاقيات، ولم تعد انتهاكات حقوق الإنسان تتم حسب رغبات الحكومات في الخفاء. وسيستمر الصراع حول كرامة الإنسان بين المؤمنين بها مهما كانت ملّتهم من جهة، وأولئك الذين لا يقيمون للإنسان وزناً مهماً كانت ملّتهم، من جهة أخرى.