يخيل للمرء أحياناً، أنه في بلاد النوافذ المغلقة، كثيرون مستعدون للمضي إلى نقطة الضوء، تقودهم الشجاعة والإيمان. ودائما هناك من يضيع أثر تلك النقطة بعيد تغييبهم القسري.من مساوئ العيش في بلد نوافذه مغلقة، أن حراكه العام يدور ضمن حلقة صغيرة من البشر. زمنه يسري على الجميع، وكذا تجليات الغياب القسري فيه.
وقد مرت أربعة أشهر. زمن الاعتقال يقاس هنا بالسنوات. الأشهر تدرب على الاعتياد. بعد «صدمة» الأيام والأسابيع الأولى، ندخل مرحلة رتابة الاعتياد. بحلول «الصدمة» الثانية مع صدور الأحكام، نحيي طقوس الأيام الأولى. ثم نبدأ بإحياء الذكرى الأولى للاعتقال، الثانية، الثالثة، حسبما تقتضيه شروط الزمن حيث النوافذ مغلقة. بعد موجة المناشدات والإدانات الدولية والمحلية، يسود صمت مريب.
الاعتياد لا يعني النسيان. هو فقط نوع من التأقلم مع الغياب والانتظار. التكرار يفقدنا الشعور بالزمن. تشابه اللحظات والكلمات، يخلق فوضى في الذاكرة. اعتقل هؤلاء كما أولئك، وردود الفعل تتشابه. التهم والأحكام والإشاعات، كل شيء يبدو تكراراً لما قبله.
قاضي التحقيق أصدر قراره أخيراً، في قضية معتقلي إعلان دمشق. تهم نشر الأخبار الكاذبة وإضعاف الشعور القومي والجمعية السرية إياها. بدلاً من الشعور بالاستياء، يطغى شعور بالرضا لأن التخمينات المتوقعة تحققت.
تسأل إحدى الزوجات عن معنى هذا القرار. تنفجر بالبكاء بلا سبب. تتذمر من طول فترة غياب زوجها. أجيبها بنزق، أن لم يمض سوى أربعة أشهر على اعتقال زوجها. الجواب يحمل بداهة الاعتقال المديد، ورتابة الاعتياد التي لا تلف العائلات عادة.
حالة الاعتياد تلف الآخرين جميعاً. الحراك العام في الداخل. المنظمات الدولية التي تنشغل بالجديد من الانتهاكات. والضيوف الذين يهتمون لحقوق الإنسان، فيتذكرون طرح سؤال عن المعتقلين في آخر لقاءاتهم الرسمية، ويهزون رؤوسهم بتفهم حين يسمعون الجواب الرسمي ذاته. أولئك خالفوا القانون ويحاكمون بعدالة أمام القضاء!
بوعي أو غير وعي، نشارك جميعا بتحويل المعتقلين إلى مناسبة للاحتفاء. أيقونات للبطولة أو الرثاء. وأرقام للتأريخ والتوثيق، فربيع دمشق أجهض باعتقال كذا ناشط ومثقف، وإعلان دمشق بيروت حوصر باعتقال كذا ممن وقع عليه، وإعلان دمشق استهدف باعتقال كذا من قيادييه ناشطاً ومثقفاً.
وأحياناً، نرى ظلال السجن تغطي من هم خارجه. عجيبة هي قدرة هذا الشيء على التمدد والتعملق.
الاعتياد يولد الملل ويوهن العزيمة. مع الوقت تصبح المناشدات وحملات التوقيع أشبه باجترار الوقت. وأساليبنا في مناهضة الاعتقال، لا تزال متشابهة حد الاستنساخ. ولعلنا لم نفكر في أساليب لمناهضة الاعتياد.
الرتابة التي تطغى على أساليب عملنا واحتجاجنا واعتيادنا حتى، هي من ناحية انعكاس لواقع حراكنا العام. تأقلم مع حصارك ولا تحاصره، تلك هي السياسة بشروطها البائسة في دول النوافذ المغلقة.
وهي من ناحية أخرى، أسلوب ناجع ضد اهتراء الأمل. فالحياة تستمر، واللحظات مشبعة بالأحداث الكبيرة والصغيرة. سرعة دوران وولادة الأحداث من حولنا لا تسمح بالتوقف لزمن طويل عند نقطة مرت وأصبحت من الماضي.
حدث الاعتقال يكشف أيضا هشاشة «السياسة» في ظلام النوافذ المغلقة. يدهش المرء لجمال بعضهم وجرأتهم. لقدرتهم على الاستمرار والمضي بثبات حتى الاعتقال. ولقدرتهم على تجاوز ذاكرة الخوف، من أجل مبدأ آمنوا به. يدهش المرء أيضاً، للارتباك الذي يجري فيه التعامل مع حدث اعتقالهم من قبل الجسم الذي انتزعوا منه. للعودة إلى نقطة الصفر في كل مرة يعاد فيها المشهد. ولاستعادة الحوارات والاقتراحات والممارسات نفسها، في استنساخ غير ضروري للزمن. وكأن الحراك العام قديمه، وقديمه المتجدد، لم يأنس رغم الزمن المديد، التعامل مع أوقات الأزمات، وعيونه لم تأنس الظلمة، ولم يقده حظه إلى ابتكار أساليب جديدة للإضاءة.
يخيل للمرء أحياناً، أنه في بلاد النوافذ المغلقة، كثيرون مستعدون للمضي إلى نقطة الضوء، تقودهم الشجاعة والإيمان. ودائما هناك من يضيع أثر تلك النقطة بعيد تغييبهم القسري.
هذا مما يجب الاعتياد عليه أيضاً. لا مفاجآت في بلادنا، إلا إذا كانت من قبل السلطة. في هذه الأثناء، نعتاد الاعتياد، ونستذكر من غيبهم الاستبداد ونذكر بهم. فلا فيروز قادمة من جديد لتغني في دمشق، ولا الألعاب الأولمبية ستقام في سورية. لا مناسبة نحتج بها على الآخرين بما لدينا من معتقلين. ولا لنفاق أنظمة الديموقراطية استياءً من تدهور أوضاع حقوق الإنسان هنا أو هناك، وتغليباً للمصالح على المبادئ. تجاوزنا عصر الأنوار منذ زمن بعيد على أية حال.
علينا أن نبتدع مناسبات لتذكرهم، والاحتجاج ورقاً وقلماً على استمرار اعتقالهم.
* كاتبة سورية