«آن» الغجرية

Ad

قلت في الحلقة السابقة إنني حينما ضاعت نقودي خرجت أذرع الشوارع بلا هدى بانتظار اتصال يأتيني في الغد من الملحق الإعلامي في السفارة الكويتية في دمشق لحل أزمتي المالية الصغيرة، وقلت أيضا إنني وجدت الزميل محمد القدومي الذي يعمل في جريدة السياسة بالمصادفة، الذي أقلني بسيارته الـ«دودج»، وحينما شكوت له سوء الحال قال لي بكل شهامة عربية: «يازلمة افتح الدرج وخوذ قد ما بدّك ونتحاسب بعدين»، حينها قلت له شريطة أن تخصم هذا المبلغ من راتبي تلقائيا عندما نعود إلى الكويت، فوافق على الأمر، ثم التفت إلي قائلاً «وهسع وين بدك» فقلت له على الفور: إلى اصدقائي الغجر، وهنا فتح فمه دهشة ثم قال: «هضول حرامية شو بدك فيهم؟! قلت له: لا والله الحرامية الذين سرقوا نقودي من ذوي الياقات البيضاء في الفندق!»، ثم أردف متسائلاً لماذا أنتم الشعراء تحبون الغجر؟ زي عرار شاعر الاردن الذي كتب عنهم ديوانا كاملا اسمه «عشيّات وادي اليابس»، فقلت له يا أبو «حنطش» وهل أنا أفضل وأعقل من عرار الذي أوقف الموكب الملكي للملك عبدالله بن الحسين ملك الأردن، حينما كان وزيرا لبلاطه، ونزل لكي يحييهم بقوله:

«بين الخرابيش لا عبد ولا أمة

ولا أرقاء في أزياء أحرار»

فهنالك يا قدومي الكل يتساوى عندهم، لذلك أنا أحبهم ولذلك توجه بي إلى مضارب الغجر، وما ان وصلنا الى مضارب الغجر حتى أحضر العود صديقي «عبجو» الأعمى، وأحضر المرواس «سطوف»، وبقية آلات الإيقاع أحضرتها «كاملة» العجوز، وبينما كان يسطع على نور السيارة وجها «نوارة» و«حمزية» الراقصتين الأفعوانيتين، ابتدأ السامر حتى مطلع الشمس، بينما انضم القدومي رفيقي بالمواويل الحزينة التي يسمعها الغجر لأول مرة في الحياة، وكان صوته الشجي يشق عنان السماء، وقد لفت نظري شابة جميلة شقراء لأول مرة أراها في مضارب الغجر، وكانت تبدو لي أنها ليست منهم، بل كدت أجزم آنذاك انها فتاة اوروبية ولا شك، وحينما سألت عنها شيخة الغجر (كاملة) العجوز، قالت لي: إنها من بلاد المجر، وهي تأتي لتقيم عندنا عدة أيام ثم تختفي في المدينة، ان اسمها «آن»، وهي طالبة تعد رسالة في «اغاني الغجر» في كل أصقاع العالم، وهي تعرف اللغة العربية بشكل لا بأس فيه، حينها ناديت «آن» ورحبت بها وقلت لها: أنا مثلك شاعر اعد كتابا عن حياة الغجر وعاداتهم وطقوسهم وفنونهم الغريبة، ففرحت (آن) بهذه المصادفة، لاسميا انني احفظ بعض الشعر المترجم للشاعر المجري (يوجيف اتيلا)، وكنت ألقي عليها الشعر بطريقة احتفالية مع عود صديقي (عبجو)، الأمر الذي جعلها تتعلق بي وأتعلق بها، حتى اننا ما إن قررنا وداع الغجر انا وصديقي (ابو حنطش) القدومي، حتى قالت لنا خذوني معكما إلى الفندق الذي أسكن فيه، وكان قريبا من الفندق الذي كنت اسكن فيه انا، وفي الطريق أخرجت «آن» المجريّة «نايا» من حقيبتها الكتانية، وراحت تنفخ وتعزف عليه بأناملها الرقيقة البيضاء، وكان يصدر لحنا حزينا، يعيدك الى سهول بلادها البعيدة؛ الامر الذي دعا صديقي القدومي الى التوقف عن القيادة، ثم أصغى طويلا إليها، وبعد ذلك تناول الناي (الشبيبه) باللهجة الفلسطينية، وراح يعزف عليها الدبكة الفلسطينية، وقد شبكنا أيادينا، القدومي، وآن، وأنا، ورحنا (ندبك) في الشارع، غير عابئين بأحد، ثم لا أدري كيف انضم إلينا بعض الشباب الريفيين، واتسعت الحلقة، وقبل أن يتجمهر علينا المارة، ركبنا سيارتنا وولّينا الأدبار.

حينما أوصلنا (آن) إلى فندقها وقبل أن تترجل، قالت لي: لقد سمعت الكثير من أشعار الغجر، وأريد أن أسمع أشعارك أنت فاتفقنا أن نلتقي في المساء، لنمارس التسكع في المدينة ونردد الأشعار.

أويت إلى غرفتي في الفندق فانتابني الأرق، ورحت اتقلب على السرير أفكر بالنقود المضاعة حينا وبـ(آن) المجرية الشقراء، وبينما كنت مشعلا سيجارتي وأدخنها على السرير، لست ادري كيف سقطت مني على الارض، وراحت تتدحرج تحت السرير، الامر الذي خفت منه أن تسبب حريقا في الفندق، فنزلت أبحث عنها قبل ان تترك اثرا على «الماكيت»، وبينما كنت أبحث عنها وقعت عيناي على نقودي المبعثرة الضائعة تحت السرير، والتي يبدو أنها سقطت بين مقدمة السرير والجدار؛ لذلك رحت أجمعها بفرح طاغٍ، وانا ألعن الإهمال والنسيان.