عندما قررت «الجريدة» نشر مذكرات الدكتور أحمد الخطيب، فقد جاء ذلك القرار عن ادراك، ليس لأهمية ما ورد فيها من معلومات وأفكار وآراء فحسب، ولكن انطلاقا من رغبتنا في كسر حاجز وهمي طالما ظل يسيطر على الحياة السياسية الكويتية، وهو أنه على الرغم من ثراء وتنوع الفعل والنشاط الكويتي العام، إلا أننا نادراً ما نجد من يقدم تجربته من جيل الرواد لكي يتداولها الناس، ويتعرفوا عن كثب على شخصيات ورموز أثّرت وأثْرت وأعطت لبناء هذا الوطن، فأغلبية ما صيغ وما نشر من تلك التجارب لا تعدو كونها سردا طوليا، أو ملفات للصور، لا تحلل ولا تشرح بقدر ما تبين البعد الايجابي للشخص صاحب المذكرات، وقد ترتب على هذا نقص حاد وقصور شديد في المكتبة الكويتية الخالية من المذكرات الشخصية التي تمارس نقدا ذاتيا، وتلتزم الأصول المتعارف عليها لفن كتابة المذكرات، فكتابة المذكرات ليست كما قد يتصور البعض بأنها كتابة مؤرخين يستندون في كتابتهم الى مصادر موثوقة بالضرورة يتم استقاؤها من رسائل أو كتب، ولكنها سيرة ذاتية لصاحب المذكرات كما رآها هو، وكما فهمها هو، وكما عايشها هو، وهذا الامر يعني بالضرورة أنه قد تكون هناك حقائق مكملة غابت عن مشاهدة صاحب المذكرات، وهو أمر لا تثريب عليه، بل انه قد يكون حافزا لآخرين لأن يصححوا، ان كانوا يتصورون أن اغفالا ما قد حدث، دون الحاجة الى التجريح أو التجريم.

Ad

وهكذا كان قدر «الجريدة» أن تصدر في الوقت ذاته الذي انتهى فيه الدكتور أحمد الخطيب من كتابة مذكراته، فالتوقيت بالنسبة لنا كان فرصة لا تعوض للاقدام على هذه الخطوة، التي نسعى الى ان تتبعها خطوات أخرى مع شخصيات كويتية كانت لها اسهاماتها في مسيرة هذا الوطن، ونحن إذ نفتخر بأننا نشرنا مذكرات الدكتور أحمد الخطيب فإننا في الوقت ذاته نرحب بجميع الردود والتعقيبات.

من هذا المنطلق يأتي ترحيبنا بنشر رد الدكتورة سعاد الصباح التي نكن لها الكثير من المودة والاحترام، ونحن في «الجريدة» وإن كنا نقدر الرغبة الصادقة للدكتورة سعاد الصباح في تثبيت الدور الذي أداه زوجها ورفيق دربها الشيخ عبدالله المبارك في مسارات الحياة السياسية الكويتية حتى مغادرته الكويت عام 1961، إلا أننا نختلف مع بعض الأحكام والنعوت التي وصفت بها الدكتور الخطيب، ولكننا على أي حال ملتزمون بنشرها كما وصلت الينا من دون حذف أو تعديل من أي نوع.

لقد أوضح نشر مذكرات الدكتور الخطيب صحة ما ذهبنا إليه من الناحيتين المنهجية والاعلامية، فمن حيث المنهج فإننا فتحنا الباب لأسلوب جديد في التعاطي مع التطور السياسي في الكويت ظل مفقودا طوال هذه السنين، ونحمد الله اننا وفقنا في كسره مع شخصية بأهمية الدكتور أحمد الخطيب ورمزيته.

أما من الناحية الاعلامية فقد كانت المتابعة غير المسبوقة للمذكرات وتجاوب القراء معها دليلا آخر على أنه مازالت هناك مساحة واسعة لتقديم مادة ذات نوعية جادة ومقروءة في الوقت ذاته.

ولا يسعنا هنا إلا التقدم بالشكر للدكتورة سعاد الصباح على مسعاها الذي نعلم انه سيثير أيضا جدلا وردود أفعال نأمل ان تستمر، فتاريخ الكويت ليس ملكا لأحد، بل هو ملك للكويت كلها، وطالما اننا مازلنا نتنفس نسائم الحرية، فللجميع الحق -من دون استثناء - في أن يقول رأيه.

د. سعاد الصباح تنفي في هذه الحلقة اعتبار أن زوجها الشيخ عبدالله المبارك كان على هامش التاريخ الكويتي، ورأت أنه ساهم بفاعلية في مؤسسات الحكم والسلطة.

وعددت د. سعاد الصباح كذلك أدوار عبدالله المبارك على صعيد مؤسسات الدولة، إذ أبرزت اهتمامه بالتعليم وإرسال البعثات التعليمية إلى مصر ولبنان وانكلترا، وكذلك اسهاماته ودوره في دائرة الأمن العام وسعيه إلى تسليح قوات الأمن بأحدث الأسلحة.

يعتبر عبدالله المبارك من نمط رجال الحكم الذين أدركوا أهمية المؤسسات في الدولة الحديثة. وفي هذا المجال، تنوّعت أدوار الشيخ عبداللّه المبارك في بناء مؤسسات الحكم ومرافق إدارة المجتمع في الكويت، بين التأسيس والإنشاء، من ناحية، والتحديث والتطوير، من ناحية أخرى.

واتسمت جهود الشيخ عبداللّه المبارك بالانفتاح على الخارج، والسعي للإفادة من كل ما هو جديد ومتطور. وعكست هذه الجهود سمات شخصيته وطموحاته. فقد كان الشيخ منفتحاً على العالم، طموحاً لإدخال الجديد والحديث إلى بلاده، وإذا كان بناء المؤسسات من التحدّيات الكبيرة التي تواجه أي مجتمع، فإن تلك التحديات كانت أكثر جسامة وخطورة في حالة الكويت وذلك لعدّة أسباب:

أولها، أن الكويت لم تكن استكملت بعد كل مقوّمات الاستقلال، وكان على قادتها مراعاة الالتزامات التي تفرضها خصوصية العلاقة مع بريطانيا. وثانيها، أن الكويت دولة قليلة السكان، وكان عليها أن تعتمد على العمالة الوافدة من الخارج بكل ما يرتبط بذلك مع مشكلات وأعباء. وثالثها، وربما كان أهمها، هو تحدّي السرعة والرغبة في «اختزال الزمن» واللحاق بالعصر في أسرع وقت.

لقد وقعت قيادة الكويت وقتذاك بين شقّي الرحى: الرغبة في استثمار عائد النفط لتحقيق التحديث والتقدّم الاجتماعي وبناء المؤسسات في أقل زمن ممكن، وأن يتم ذلك بأقل قدر من التوتّر الاجتماعي وعدم الاستقرار. ووقع على كاهل الشيخ عبداللّه المبارك الجزء الأكبر من هذه المسؤولية.

ولكي نضع جهود الشيخ عبداللّه المبارك في سياقها التاريخي، علينا أن نتذكّر كيف بدت الكويت في نهاية الأربعينيات. فحتى عام 1950، لم يكن هناك سوى بنك واحد في البلاد هو بنك إيران والشرق الأوسط، ولم تكن هناك طرق مرصوفة خارج مدينة الكويت ما عدا الطريق الذي يربط المدينة بميناء الأحمدي والذي رصفته شركة النفط، بالإضافة إلى عدد من الطرق المرتبطة بحقول النفط. وكان المطار بسيطاً للغاية في استعداداته وتسهيلاته ولم يكن من الممكن استخدامه عند هبوب العواصف أو هطول الأمطار.

البداوة والتجارة وصيد اللؤلؤ

لقد عاش الشيخ عبداللّه المبارك حياة البداوة وعصر التجارة وصيد اللؤلؤ، وشاءت الأقدار أن يكون قريباً من قمة السلطة في لحظة تطوّر مهمة، وهي مرحلة اكتشاف النفط التي غيّرت وجه الحياة لمجتمع الكويت وشعبه ووضعت الأساس لمرحلة جديدة من تطور الدولة الكويتية.

وربما ليس من قبيل المبالغة القول بأن يوم 30 يونيو من عام 1946 يمثل نقطة تحوّل فاصلة في تاريخ الكويت. فقد شهد هذا اليوم احتفالاً رأسه الشيخ أحمد الجابر حاكم الكويت، وحضره المقيم السياسي في الخليج بمناسبة تصدير أول شحنة من النفط، وأدّى إنتاج النفط [30 نوفمبر 1946 عندما أقيم احتفال كبير بهذه المناسبة. وقام الشيخ أحمد الجابر بفتح الصمام الفضي إيذاناً ببدء شحن أول دفعة من النفط الخام على السفينة البريطانية British Fusilier] إلى تغيير في كل نواحي الاقتصاد والاجتماع والسياسة. فازدادت الموارد المالية للدولة والمجتمع، وانعكس ذلك على مستوى المعيشة وعلى حركة التشييد والعمران التي أخذت شكل الطفرة في حقبة الخمسينيات.

وكان العنصر الحاسم هو ازدياد عوائد النفط، ففي عام 1946، بلغت هذه العوائد 760 ألف دولار أميركي، قفزت إلى مليوني دولار في العام التالي مباشرة، ثم إلى5.95 ملايين دولار في عام 1948.

وفي مجال الاقتصاد، تحوّل رأس المال التجاري من مجال صيد اللؤلؤ والنقل إلى مجال الاستثمار الداخلي. وفي عام 1952، تأسّس أول بنك وطني في الكويت وفي منطقة الخليج العربي، وفي نفس الفترة بدأت عملية إعادة تخطيط مدينة الكويت تخطيطاً كاملاً. ولم يكن من الممكن أن تتم تلك الطفرة الاقتصادية والعمرانية من دون تدفق هائل للأيدي العاملة من البلاد العربية والمجاورة.

نكبة فلسطين وأزمة النفط الإيرانية

دعم هذا التدفق حدثان: أولهما، نكبة فلسطين عام 1948 التي أسفرت عن هجرة عدد كبير من الفلسطينيين إلى الكويت، وثانيهما، أزمة النفط الإيرانية عام 1951 التي أدّت إلى توقّف العمل في حقول النفط ومعامل تكريره وإلى انتقال الألوف من العمال الإيرانيين إلى الكويت.

وترتّب على ذلك ازدياد عدد سكان الكويت من 90 ألفاً في عام 1946 إلى 206 آلاف في عام 1957 بمتوسط نمو سكاني قدره 9% وانعكس ذلك على التركيب السكاني فبلغت نسبة الوافدين 45% من عدد السكان عام 1957، ثم ارتفعت إلى 50.3% عام 1961 [محمد عبده محجوب، الكويت والهجرة. وجمال زكريا قاسم، الخليج العربي: دراسة لتاريخه المعاصر.

وشملت الطفرة كل مجال، وكل مكان تقريباً. فحدث تقدّم عمراني هائل، وتمّ توصيل المياه العذبة الصالحة للشرب إلى مناطق عديدة في مدينة الكويت، وأنشئت محطّات كبيرة لتوليد الكهرباء، ورصفت مئات الأميال من الطرق الرئيسية التي تصل بين مدينة الكويت والأحمدي والجهراء والشعيبة، وأنشئت المدارس والمستشفيات، وأرسلت البعثات التعليمية إلى الخارج وتوسعت الخدمات الاجتماعية. باختصار، ففي حقبة الخمسينيات، شهدت الكويت مشاريع عملاقة للتنمية أنفقت عليها عشرات الملايين من الدولارات، وكانت بمنزلة البنية الأساسية الضرورية لحدوث التقدّم المادي والاجتماعي على حدّ سواء.

وفي مجال تنظيم الموانئ والملاحة البحرية، أشرف الشيخ عبداللّه المبارك على إنشاء ميناء الأحمدي عام 1951 ليكون منفذاً حديثاً للبلاد على العالم الخارجي. وفي عام 1957، أصدر القرار الخاص بتعديل حدود الميناء لتوسيعه [جريدة الكويت اليوم، عدد 48، بتاريخ 10 نوفمبر 1957]. وفي مجال تنظيم العمالة الوافدة والهجرة، أنشأ إدارة العمل والإحصاء والهجرة. وفي المجال الاقتصادي، دعم غرفة التجارة والصناعة.

اهتم الشيخ عبداللّه المبارك بالتعليم وأشرف على عملية التوسّع الهائلة في مجال التعليم، وعلى إرسال البعثات التعليمية إلى مصر ولبنان وإنكلترا لإعداد جيل جديد من الكوادر الكويتية المؤهلة تأهيلاً رفيعاً.

من خلال رئاسته لمجلس المعارف إذا نظرنا إلى بعض [قرارات مجلس المعارف تحت رئاسته في جريدة الكويت اليوم، عدد 22، بتاريخ 7 مايو 1955، عدد 51، بتاريخ 10 ديسمبر 1955، وعدد 54، بتاريخ 31 ديسمبر 1955، وعدد 167، بتاريخ 23 مارس 1958، وعدد 168، بتاريخ 30 مارس 1958، وعدد 266، بتاريخ 13 مارس 1960، وعدد 267، بتاريخ 20 مارس 1960، جدير بالذكر أن الوكيل السياسي لاحظ اهتمام الشيخ بالتعليم وسجّل ذلك في تقاريره] ، ووفقاً لقانون إدارة معارف الكويت، فقد تكوّن مجلس المعارف من ستة أعضاء ورئيس على أن يكون الرئيس من آل الصباح (مادة 1). ويتولّى المجلس رسم خطط المعارف وسيرها، والبتّ في مناهج الدراسة، وتعيين مديري المدارس، وتقرير شؤون البعثات، واختيار المرشحين لها، ووضع اللوائح القانونية والأنظمة الخاصة بإدارة المعارف (المادة 3) [عبدالله الحاتم].

وتتضمن محاضر اجتماعات مجلس المعارف كما نشرتها جريدة «الكويت اليوم» عرضاً لبعض الأنشطة التي قام بها المجلس تحت رئاسة الشيخ عبداللّه المبارك.

فعلى سبيل المثال، أقرّ المجلس في اجتماعه بتاريخ 3 مايو عام 1955 العقود الجديدة للمدرسين، ووضع القواعد الخاصة بتنظيم الموسم الثقافي، ووافق على قيادة دائرة المعارف باتخاذ الخطوات اللازمة لتعميم مياه الشرب على جميع المدارس بالقرى، كما ناقش المذكرة المتعلّقة باشتراك الكويت في معسكر الكشافة الدولي في كندا. ووافق المجلس على الاشتراك بشرط أن يكون «باسم الكويت لا أن تكون الكويت تابعة لدولة أخرى» [محضر الاجتماع في جريدة الكويت اليوم، عدد 22، بتاريخ 7 مايو 1955].

وفي جلسته بتاريخ 4 ديسمبر عام 1955، ناقش المجلس إنشاء بيت للكويت في القاهرة على الأرض التي سبق لإدارة المعارف شراؤها بمنطقة الدقِّي [محضر الاجتماع في جريدة الكويت اليوم، عدد 51، بتاريخ 17 ديسمبر 1955].

وفي جلسته التالية بتاريخ 19 ديسمبر، تمّت الموافقة على اقتراح أمين السرّ بأن تكون اجتماعات مجلس المعارف أسبوعية، وأن تنعقد في الثامنة والنصف من صباح كل يوم أحد.

وفي جلسة 27 ديسمبر، ناقش المجلس «ضرورة اشتراك معارف الكويت في منظمة هيئة اليونسكو العالمية للوقوف على التيارات الثقافية الحديثة والأخذ بأسباب التطور الثقافي والتربوي الحديث أسوة بالبلاد المتقدّمة» ووافق المجلس على هذا الاقتراح على أن تتخذ الطرق الرسمية لتنفيذ القرار [محضر الاجتماع في جريدة الكويت اليوم، عدد 54، بتاريخ 31 ديسمبر 1955].

وفي عام 1956، نشرت جريدة الجمهورية المصرية تحقيقاً عن التعليم في الكويت ودور الشيخ عبداللّه المبارك في تطويره، فوصفت الشيخ بأنه الرجل الذي «خلّص الكويت من ظلام الجهل» [جريدة الجمهورية بتاريخ 1 مارس 1956].

وجاء فيه «أن الشيخ عبداللّه المبارك يؤمن بأهمية التعليم والتربية في تكوين الأمم والشعوب»، وبأن «سلامة الكويت من أي خطر خارجي أو مرض داخلي تتطلب أولاً وقبل كل شيء التخلّص من الجهل والظلام الذي يفتك بالعقول».

واتسمت نظرة الشيخ عبداللّه المبارك للعملية التعليمية بالتكامل والشمول، فقد نظر إلى التعليم باعتباره أداة تأهيل لجيل جديد من الكويتيين لإدارة مرافق الدولة بعد الاستقلال ولقيادة جهود التنمية فيها. لذلك، فقد اهتم بالتعليم على كافة مراحله وخصوصاً تعليم البنات، وبأنشطة التربية الاجتماعية والرياضة المدرسية. كما شجّع إرسال البعثات العلمية إلى الخارج.

اهتمام بالفنون والموسيقى

وأولى الشيخ عبدالله المبارك التعليم في مجال الفنون والموسيقى اهتماماً خاصاً، فشجّع تأسيس الجمعيات الفنية، وجمعيات الرسم والتصوير والموسيقى والتمثيل، وأقيمت فرق تمثيلية وموسيقية للطلبة من الجنسين لشغل أوقات فراغهم، لذلك وُصفَ الشيخ بأنه «راعي الفنون والموسيقى» في الكويت.

وتابع الشيخ عبداللّه المبارك بوصفه رئيساً لمجلس المعارف جهود التوسع في التعليم، فدعم إنشاء المباني المدرسية [الكويت اليوم، عدد 51، بتاريخ 10 ديسمبر 1955]، واهتم بشؤون التعليم في المراحل الثلاث، الحضانة والابتدائية والثانوية [الكويت اليوم، عدد 54، بتاريخ 31 ديسمبر]. كما عمل على توفير دعم أمير البلاد للمشروعات التعليمية [الكويت اليوم، عدد 167، بتاريخ 23 مارس 1958]. وأسهم في تسهيل إنجاز بعض هذه المشروعات، فقدّم، على سبيل المثال، مساحة 3248م2 من أرضه الخاصة قرب قصر دسمان، لإنشاء مبنى إدارة الصحة المدرسية في عام 1959 [الكويت اليوم، عدد 232، بتاريخ 19 يوليو 1959].

وفي عام 1959، أقرّ الشيخ عبداللّه المبارك مشروعاً تاريخياً وحضارياً مهما، وهو إعداد سجل تاريخي يحتوي على الوثائق الخاصة بتاريخ الكويت وأحداثه المختلفة لتكون مادة وثائقية للمؤرخين والباحثين في تاريخ الكويت والخليج العربي عموماً.

وأصدر الشيخ نداءً عاماً لكل المواطنين والباحثين للإسهام في إعداد ذلك السجل، وتقديم ما في حوزتهم من وثائق أو مذكّرات إلى إدارة المعارف، أو على الأقل تقديم صور منها لضمّها في السجل [الكويت اليوم، عدد 243، بتاريخ 4 أكتوبر 1959، ثم أعيد نشره في عدد 245، بتاريخ 18 أكتوبر 1959].

إعادة تشكيل مجلس المعارف

وبعد إعادة تشكيل مجلس المعارف في عام 1960، انعقد أول اجتماع له برئاسة الشيخ عبداللّه المبارك في 29 فبراير الذي أشار في بداية الاجتماع على أهمية دور المجلس «في تربية النشء تربية صالحة هدفها الأخلاق الفاضلة والخدمة الخالصة للوطن» وأكّد على المسؤولية الملقاة على عاتق المجلس «الذي يشرف على دائرة من أهم الدوائر لما لها من أثر في مستقبل البلاد» [الكويت اليوم، عدد 265، بتاريخ 6 مارس 1960]. وفي اجتماع المجلس بتاريخ 7 مارس، نوقش مشروع قانون الآثار وفكرة إنشاء متحف الكويت الوطني ودور مجلس المعارف في المحافظة على الآثار وصيانتها ومراقبة الإتجار بها.

ووافق مجلس المعارف على المشروع وعلى رفعه للمجلس الأعلى لإقراره، كما وافق المجلس على إنشاء أول روضة أطفال في جزيرة فيلكا [الكويت اليوم، عدد 266، بتاريخ 13 مارس 1960]. وفي اجتماع مجلس المعارف برئاسة الشيخ بتاريخ 14 مارس، ناقش الأعضاء تقريراً عن إنشاء جامعة الكويت وتم الاتفاق على إعطاء مزيد من الوقت لدراسة التقرير «لما لهذا الموضوع من أهمية كبرى في مستقبل البلاد» [الكويت اليوم، عدد 267، بتاريخ 20 مارس 1960].

ومن الاطلاع على محضر الاجتماع، يتّضح حجم التطور التعليمي الذي شهدته الكويت في تلك الفترة. فقد شمل إنشاء مدارس جديدة، والتوسع في أبينة وخدمات المدارس القائمة، وتطوير المعسكر الكشفي، والاحتفال بعيد الأم في 21 مارس، وإقامة مدارس في إمارتي الشارقة وعجمان، وتعليم المكفوفين والمكفوفات والصم والبكم، وإنشاء معهد لضعاف العقول، وتعكس هذه الإشارة شمولية النظرة للعملية التعليمية والعمل على تحقيق أهدافها التربوية من مختلف جوانبها بما يضمن تأهيل الأجيال الجديدة من أبناء وبنات الكويت على أعلى مستوى.

ومثلما ساهم الشيخ عبداللّه المبارك في بناء مؤسسات السلطة والحكم، فقد كان له دوره في إقامة مؤسسات المجتمع المدني ودعمه. ففي نهاية الأربعينات، وتحت تأثير عملية التغيّر الاجتماعي والتحديث خصوصاً بعد إنتاج النفط، شهد المجتمع الكويتي نشوء فئات اجتماعية جديدة تطلعت للمشاركة، وللقيام بدور في الحياة العامة.

دائرة الأمن العام

أما دائرة الأمن العام فتعود نشأتها إلى الثاني عشر من ديسمبر عام 1938 حين أمر الشيخ أحمد الجابر، أمير الكويت، بتأسيس الدائرة وذلك بهدف حفظ الأمن والنظر في أمور البادية. وكان مقر الدائرة في ساحة الصفاة، وسط المدينة.

وتولى رئاسة الدائرة الشيخ علي الخليفة الصباح، وكان ساعده الأيمن الشيخ عبداللّه المبارك. وفي أبريل عام 1942، توفي الشيخ علي الخليفة فخلفه الشيخ عبداللّه المبارك - وهو في أواخر العشرينات من عمره - وكان نائبه الشيخ عبداللّه الأحمد الجابر الصباح حتى وفاته في 28 يناير من عام 1957.

بدأت الدائرة بداية بسيطة ومتواضعة، ثم أخذت في استكمال مقوماتها، في عام 1942، كانت تضم ثلاثة موظفين فقط هم: عبداللطيف فيصل الثويني، وعثمان بوقماز، وأمين سنجر. وفي عام 1948، أنشأ الشيخ عبداللّه المبارك أول مدرسة للأمن العام، وتبرّع بمكانها، وهو منزل والدته في شارع السور، وعيّن أول مدير لها، وهو محمد أبو كحيل.

وفي عام 1948، طلب أمير الكويت من الشيخ عبداللّه المبارك الإعداد لإنشاء إدارة تتولى شؤون الجوازات والسفر، وتم افتتحها رسمياً في غرة يناير عام 1949، ولم يكن عمره قد تجاوز الخامسة والثلاثين بعد. واختار مساعداً له فيها هاني قدومي الفلسطيني الجنسية، وكان مبنى الجوازات في ساحة الصفاة وحضر الشيخ أحمد الجابر حفل افتتاح الإدارة، ويومها صدر أول جواز سفر كويتي، وطلب الشيخ عبداللّه المبارك من قدومي أن يكتبه باسم يوسف أحمد الغانم.

وإذا أخذنا في الاعتبار حجم التغير الاجتماعي الذي شهدته الكويت في فترة الخمسينات، وتدفق العمالة الوافدة عليها، والظروف الإقليمية التي أحاطت بها، ندرك أن هذا الحزم كان أداة لازمة لمواجهة محاولات الإثارة وعدم الاستقرار الاجتماعي والمساس بالأمن العام في فترة اتّسمت بالتحوّلات الكبيرة داخلياً وإقليمياً. وحاولت خلالها بعض القوى الإقليمية استخدام الكويت كساحة للصراع السياسي، ولتصفية خلافاتها مع خصومها.

القانون على أفراد الأسرة

ولقد جمع الشيخ عبداللّه المبارك بين القوّة والحزم، وكان يؤمن من أعماقه أن العدل أساس الحكم، وأنّ القانون ينبغي أن يطبق على الجميع دون فارق أو تمييز ولم يتردّد قط في تطبيق القانون واتخاذ الإجراءات اللازمة ضد أفراد الأسرة إذا ثبت مخالفتهم للقانون.

وعمل الشيخ عبداللّه المبارك على تسليح قوّات الأمن العام بأحدث الأسلحة. وتورد الوثائق الإنكليزية والأمريكية تفاصيل بعض عمليات التسليح الهامة التي قام بها الشيخ عبداللّه المبارك، والمفاوضات الشاقة التي خاض غمارها لتزويد القوات بما تحتاج إليه.

مع زيادة أهمية الاتصال الجوي في الأربعينيات، وقيام شركة الطيران العراقية وشركة طيران الشرق الأوسط وشركة مصر للطيران بتنظيم خطوط طيران أسبوعية تربط بيروت والقاهرة بالكويت، ازدادت حماسة الشيخ عبداللّه لتأسيس دائرة حكومية للطيران المدني، وإنشاء مطار دولي، وشركة طيران وطنية، ونادٍ ومدرسة للطيران. واعتبر الشيخ قطاع الطيران المدني أحد مظاهر الحياة الحديثة الذي ينبغي أن تشارك فيه الكويت. لذلك، خصّص له جزءاً كبيراً من وقته واهتمامه، وألقى بثقله السياسي وراء تطويره.

في البداية، لم تتحمس بريطانيا لإنشاء قطاع وطني للطيران المدني في الكويت، ولكن ذلك لم يثن الشيخ عبداللّه المبارك عن هدفه. وتذكر الوثائق الأمريكية أنه في منتصف مارس من عام 1953، افتتح الشيخ عبداللّه المبارك «نادي طيران الكويت ومدرسة الطيران» وذلك في احتفال كبير، أقيم في مطار الكويت.

ويعكس تقرير نشرته «الكويت اليوم» في ديسمبر عام 1958 النظرة الشاملة لجهود الشيخ عبداللّه المبارك في تطوير الطيران المدني، فقد حدّد أهداف الدائرة في رسم سياسة طويلة المدى في ما يتعلق بالمطارات وسلامة حركة المرور الجوي وإعداد الفنيين اللازمين لذلك، ورسم سياسة النقل الجوي والإشراف على منشآت الطيران، والإشراف على مدارس وأندية الطيران ووضع سياسة لتشجيع تعليم الطيران، والإشراف على وضع تشريع شامل لتنظيم الطيران المدني، والاشتراك في عقد الاتفاقيات لتنظيم النقل الجوي مع الدول الأخرى.

مطار الكويت

ويلخص التقرير أهم إنجازات الدائرة «فقد أصبح مطار الكويت مطاراً كويتياً تابعاً لحكومة الكويت»، وصدر «قانون ملاحة وسجل طيران كويتي وبذا أصبحت علامات التسجيل وحروف النداء للطائرات المسجلة في الكويت خاصة بها»، وأنشئ ممر جديد للطائرات ومحطة لاسلكي بعيدة المدى، وأرسلت بعثة من الشباب الكويتي للحصول على شهادة المراقبة الجوية.

أمّا بخصوص مدرسة الطيران، فقد أشار التقرير إلى حصول 17 كويتياً على شهادة الطيران الخاصة، كما طار منفرداً 90 طيّاراً أرسل 11 منهم - الكويتيين - في بعثة إلى الخارج وحصل 5 منهم على شهادة الطيران التجاري الممتاز. وأبرز التقرير دور مدرسة الطيران في مجال الخدمة العامة بما يتجاوز مهمتها الأصلية فقامت بنقل الضباط والجنود لمراقبة حدود الكويت في الحالات العاجلة، وبتصوير الكويت من الجو، وبالمشاركة في مقاومة الأوبئة من خلال رش المواد المطهرة من الجو [الكويت اليوم، عدد 203، بتاريخ 14 ديسمبر 1958].

مما سبق، يتضح أنّ الشيخ عبداللّه المبارك قام بدور رائد في تأسيس نواة الطيران المدني في الكويت وكانت جهوده في هذا المجال متنوعة، ما بين تأسيس شركة الطيران، وبناء المطار الجديد وإنشاء نادي الطيران لإعداد كوادر وطنية قادرة على إدارة مرافق الطيران المدني.

وفي مجال الإعلام العسكري اهتم بالثقافة وصدر العدد الأول من مجلة "حماة الوطن" في أكتوبر 1960 وهي مجلة عسكرية ثقافية كتب فيها أبرز الكتاب والمثقفين في الكويت والبلاد العربية مثل الأستاذ عبدالرزاق البصير، د. سهيل إدريس، د. قدري حافظ طوقان، ود. نقولا زيادة.

وعبر رحلة الحياة الطويلة تعدّدت الخبرات الإدارة والمسؤوليات السياسية لعبداللّه المبارك، والتي شملت دائرة الأمن العام والشرطة، وتأسيس الجيش بقطاعاته الثلاث البرية، الجوية والبحرية، وإنشاء الطيران المدين، والإشراف على مجلس المعارف، والإذاعة، والجوازات، الأمر الذي وفّر له خبرات متنوعة في الحكم ومكّنه من امتلاك النظرة الشاملة للأمور والقدرة على تحليل أي قضية من جوانبها المتعددة والتعرف على التداعيات المختلفة لتبنّي سياسة ما.

وهكذا، فإن مشاركة الشيخ عبداللّه المبارك في الحياة العامة الكويتية لم تقتصر على جانب واحد دون غيره بل شملت معظم جوانب الحكم والمجتمع من دفاع وسياسة خارجية إلى أمن داخلي ورفاهية اجتماعية. كما أنّ هذه المشاركة لم تقتصر على فترة قصيرة بل امتدت إلى قرابة ثلث قرن مما أكسب صاحبها نظرة كلية استراتيجية لتطور الكويت في سياقها الإقليمي والدولي. نظرة تأخذ في اعتبارها تداخل العوامل الداخلية والخارجية، وأهمية الاستقرار الداخلي والأمن الاجتماعي وعلاقة ذلك بالاستقرار السياسي والاقتصادي.

كما دعمت تلك الرحلة الطويلة لدى صاحبها الاعتقاد الجازم بأن نهضة الكويت تكمن في وحدتها الداخلية، وتضامنها الاجتماعي، وتلاحم الحكم والشعب في بوتقة الأسرة الواحدة إن عبداللّه المبارك لم يكن على هامش التاريخ كما أراد أن يؤكد الدكتور الخطيب في كتابه.

صعود نجم عبدالله المبارك

استمر صعود نجم الشيخ عبداللّه المبارك في الحياة السياسية، وتعددت مسؤولياته واختصاصاته. وعندما أصدر الشيخ عبداللّه السالم أمير البلاد مرسوماً بتشكيل المجلس الأعلى الذي تكوّن من سبعة عشر شخصاً من رؤساء الدوائر الحكومية، كان ترتيب الشيخ عبداللّه مبارك الثاني بعد الأمير مباشرة، وحدّد المرسوم اختصاصاته في «رئيس دائرة الأمن العام وتتبعه إدارة الجنسية والجوازات، وإدارة الإذاعة والتلفاز، بالإضافة إلى بعض الدوائر الأخرى».

وتلاه الشيخ عبداللّه الأحمد الجابر الصباح رئيس قوات الدفاع التابعة للأمن العام، فالشيخ عبداللّه الجابر الصباح رئيس دوائر المعارف والمحاكم والأوقاف، فالشيخ فهد السالم الصباح رئيس دوائر الأشغال والصحة والبلدية، فالشيخ صباح السالم الصباح رئيس الشرطة العامة.

وتولى هذا المجلس وضع السياسة العامة للبلاد والإشراف على تنفيذها؛ فقد كان هو الذي يُقرّ القوانين، ويُصادق على الأنظمة، ويوافق على الميزانية. ومن ثم يمكن القول بأنه كان بمثابة مجلس وزراء يتولّى التنسيق بين الدوائر المختلفة ويتابع أعمالها.

وفي 7 فبراير عام 1959، أصدر الأمير مرسوماً بإعادة تنظيم الدوائر الحكومية تم بمقتضاه دمج الشرطة والأمن العام في دائرة واحدة يرأسها الشيخ عبداللّه المبارك، وجاء اسمه الأول يليه الشيخ فهد السالم الصباح رئيساً للأشغال العامة والبلدية، والشيخ صباح السالم الصباح رئيساً للصحة العامة، والشيخ جابر الأحمد الصباح رئيساً للمالية وأملاك الدولة وممثلها لدى شركات النفط، والشيخ جابر العلي الصباح رئيساً للكهرباء والماء والغاز، والشيخ سعد العبداللّه الصباح نائباً لرئيس الشرطة والأمن العام [نص المرسوم في «الكويت اليوم»، عدد 211، بتاريخ 28 فبراير 1959].

كما تكوّنت هيئة أخرى بجانب المجلس الأعلى باسم «هيئة التنظيم» من الشيخ عبداللّه المبارك، والشيخ سعد العبداللّه، وثمانية أعضاء من خارج أسرة الصباح. وكانت بمثابة هيئة استشارية للمجلس الأعلى تقدّم اقتراحها إليه. وفي عام 1960، تم دمج الهيأتين في كيان واحد باسم المجلس المشترك [د. ميمونة الخليفة الصباح، الكويت في ظل الحماية البريطانية (الكويت، 1988)].

( يتبع)