Ad

أدرك «حسيني» حين استدار مودّعاً بيته القديم بقلب مفعم بالحزن، أمراً غير عادي، هو أنه لو لم يكتب «قائد الطيّارة الورقية» لكانت مشاهدته الأخيرة لبيت أبويه أشدّ وطأة على نفسه، وأكثر إيلاماً لمشاعره، لذلك توصّل إلى خلاصة مفادها أن الفنّ يعمل، في الخفاء، على تلطيف آلام الحياة.

كنت قد تحدّثت، من قبل، عن رواية «قائد الطيارة الورقية» للكاتب الأفغاني خالد حسيني، وذكرت أنه جعل «البطل» راوياً للقصة، الأمر الذي أوهم كثيراً من القرّاء بأنه هو نفسه البطل، فيما أكد في إحدى المقابلات أن روايته متخيّلة تماماً، على الرغم من أن حبكتها مستمدة من الواقع الأفغاني، وعلى الرغم من نقاط الشبه العامة بينه وبين البطل من حيث البيئة وظروف التربية أو ظروف النزوح... وعلى ذلك عقّب مفاخراً بأنه إذا كان قد استطاع أن يوهم القارئ بأن الشخصيات حيّة والحوادث حقيقيّة، فمعنى ذلك أنه «كذّاب كبير» أو بعبارة أخرى «راوٍ جيد».

وقد وجدت خالد حسيني يعود إلى إغناء هذا الموضوع، بعد ذلك، في مقالة له في الملحق الثقافي لجريدة «الغارديان».

في هذه المقالة ينبّئنا «حسيني» بأن ذلك الوهم لدى القارئ قد أجّج الفضول لدى الراوي، إذ قرّر الأخير أن يتّبع خطى بطله على أرض الواقع، في محاولة لاستكشاف أوجه الشبه بينهما، فإذا به يتوصّل إلى نتائج مثيرة للدهشة.

يقول «حسيني»: «إن الأمير سيكون أوّل من يخبركم بأنه ليس الأنبل ولا الأشجع بين الرجال. لكنّه، قبل سنوات مضت، قد قام بعمل جامع لصفتي النبل والشجاعة معاً. فهو قد عاد إلى أفغانستان ـ التي كانت آنذاك تحت حكم طالبان ـ من أجل تصفية حساب قديم، عاد بعد عشرين عاماً من الغياب، للتكفير عن خطيئة كان قد اقترفها وهو صبيّ، وذلك بإنقاذ طفل لم يعرفه من قبل، وإنقاذ نفسه من اللّعنة.

وقد كادت رحلته تلك تكلفه حياته... والمسألة هنا هي أنني أنا الشخص الذي أرسله في هذه المهمّة، وقد كان الأمر سهلاً عليّ، لأنني، في النهاية، أنا من اخترع «أمير» فهو بطل روايتي «قائد الطيّارة الورقية».

ويواصل قائلاً: «لكنّني، بعد وضع اللمسات الأخيرة على مسوّدة الرواية، وجدت نفسي في مارس 2003 أترسّم خطى بطلي، فأخذت مكاني في الطائرة عائداً إلى أفغانستان، بعدغيبة طويلة امتدّت سبعة وعشرين عاماً تقريباً.

عندما غادرت بلادي كنت في نحو الحادية عشرة، صبيّاً نحيف البنية في الصفّ السابع الابتدائي، وها أنا أعود إليها وعمري ثمانية وثلاثون عاماً، بوصفي رجلاً متزوجاً وأباً لطفلين، حيث أعمل طبيباً وكاتباً، وأقيم في شمال كاليفورنيا».

ما أن هبطت الطائرة في كابول حتى تردّدت في ذهن «حسيني» بضعة أسطر من الرواية، فإذا بأفكار «أمير» قد أصبحت، فجأة، أفكاره هو: «كنت أظنّ أنني قد نسيت هذه الأرض... لكن هذا لم يحدث. لعلّ أفغانستان لم تكن قد نسيتني هي أيضا».

وفي غمرة ذهوله من هذا الإحساس الغريب الذي جعله يتماهى مع بطله، يقول «حسيني»: «إنّ العرف القديم في الكتابة يقول إنّك تكتب حول ما جرّبته. أما في حالتي أنا فقد كنت ذاهباً لتجربة ما كتبته سلفاً»!.

وخلال زيارته القصيرة، يكتشف «حسيني» أن كثيراً مما تخيله كان منتصباً أمامه في الواقع، وأن معظم الأحاسيس التي بثها في روح البطل قد عادت حيّة وتلبّست روحه، حتى أنّه كان يمشي بقدمي «أمير» ويتقمّص انفعالاته ويرى الأشياء بعينيه.

يقول: «مثل أمير، كنت ممتلئاً بإحساس العائد إلى وطنه للقاء صديق قديم. لكن مثل أمير أيضاً شعرت قليلاً بأنني مثل سائح في بلادي... كلانا لم يشارك في الحروب، كلانا لم ينزف دمه مع الأفغانيين الآخرين، لقد كتبت عن شعور أمير بالذنب... وها أنا الآن أجربه بنفسي».

وحين يعثر، بعد جهد، على بيت أسرته القديم، يُحسّ في داخله بانكسار حاد، كذلك الانكسار الذي أحسّه بطله تماماً عند العودة إلى المنزل القديم، وهو يعيد علينا، هنا، ما جرّبه الكثيرون منّا من شعور بالصدمة والحزن، إزاء الأماكن التي تعيش رحبة وشامخة في ذاكرتنا، ثم نراها، بعد طول غياب، صغيرة ومتضائلة.

لكنّه يُقسم أنه رأى حتى آثار زيت السيارات يغطّي أرض مرآب بيتهم القديم بالصورة نفسها التي رسمها خياله لمرآب بيت أمير.

وحين استدار مودعاً بيته القديم بقلب مفعم بالحزن، أدرك «حسيني» أمراً غير عادي، هو أنه لو لم يكتب «قائد الطيارة الورقية» لكانت مشاهدته الأخيرة لبيت أبويه أشدّ وطأة على نفسه، وأكثر إيلاماً لمشاعره، يقول: «في النهاية كنت قد مررت بهذه التجربة سلفاً: لقد وقفت، من قبل، مع أمير أمام بوّابة منزل والديه، وجرّبت شعوره بالفقد، ورأيته وهو يضع يديه فوق القضبان الحديدية الصدئة، وحدّقنا معا في السقف المتداعي، وفي درجات السلالم المكسورة.

إنّ كتابتي لهذا المنظر في الرواية قد خففت كثيراً من قسوة ألم تجربتي الشخصية في الواقع».

وقد توصّل «حسيني» من كلّ هذا إلى خلاصة مفادها أن الفنّ يعمل، في الخفاء، على تلطيف آلام الحياة.

* شاعر عراقي