ذكرت في الحلقة السابقة أن المذيع عبدالله المحيلان كان يتمتع بوسامة وجاذبية خاصة، لاسيما عند قراءة الصحف بأسلوب سهل ومحبب، وكان ذلك في أوائل السبعينيات.

Ad

أما أنا فقد كان مجرد لقائي بالمحيلان آنذاك بمنزلة حلم صعب المنال وإن كنت أحتفظ له في القلب محبة وتقديراً، إلا أن القدر ودورة الأيام جعلاني فجأة بعد سنوات وجهاً لوجه مع (محبوب الجماهير)، إذ كنت حينئذ قد بدأت أكتب زاويتي «هذرلوجيا» في جريدة السياسة وأنشر في الصفحة الثقافية بعض القصائد الحديثة الحرة التي لاقت استحسان المثقفين في المجتمع الكويتي. ولعل أول مهاتفة دولية من الخارج تلقيتها في العمر كانت من الصديق الرائع الدكتور -الآن- أحمد الربعي، شفاه الله وعافاه، حينما كان يدرس في الغرب، إذ أشاد بقصيدة نشرتها في ملحق السياسة، وقد أعطتني تلك المكالمة ثقة عالية بقدرتي الشعرية، ولاسيما أنني أعرف آنذاك كما يعرف المجتمع الكويتي كله أن أحمد الربعي في تلك الفترة لا يعجبه العجب ولا الصيام في رجب، لذلك اعتبرت مهاتفته لي وأنا الشاب المبتدئ بمنزلة شهادة انتزعتها من مخالب النمر بسطوة الشعر.

أقول إنني حينما كنت أكتب في جريدة السياسة وذات مساء شتائي قارس كنت أقف والصديق الفنان الراحل ناجي العلي في الممر المؤدي إلى صالة التحرير وكان ناجي، بعيداً عن أسماع الزملاء، يشكو لي بعض الممارسات التي أخذت تزعجه من قبل بعض القيادات الفلسطينية والموجهة إليه على وجه التحديد حول ما ينشره من رسوم كاريكاتيرية في جريدة السياسة، وبينما كنا نتحدث -ناجي وأنا- في الممر أقبل شاب يرتدي أحدث الموديلات الأفرنجية في ذلك الوقت، وكان يلف حول عنقه شالاً من الصوف الأسود الفاخر ويرتدي نظارة بيضاء، فاستقبله ناجي بالأحضان والقبلات وأخذا يتعاتبان، وكانت لهجة الشاب (المتفرنج) كويتية صرفة، وبعدما انتهيا من التعاتب التفت إلي الشاب وقال «أكيد الفليّح؟» فقلت له «بلى»، فمد لي يده مصافحاً وقال «أنا أشهد أنك شاعر فحل، لقد كنت أتمنى أن أراك». فقال ناجي ممازحاً «تسمع بالمعيدي خيرٌ من أن تراه»، ثم التفتَ إلي وقال «تعرف هذا مين يا بدوي؟» فقلت له «إن لم يخب ظني فهو عبد الله المحيلان» فقال ناجي «كلّو»، ثم تعانقنا أنا وعبدالله عناق الأصدقاء، ثم سألني المحيلان «هل أنت مشغول الليلة... نريد أن نلتقي ونتحدث، سأعود إليك بعد أن أعطي الزميل محمد زين هذه الصور»، فمد ناجي يده إلى المغلف الذي يحمله عبدالله قائلاً «بدنا نشوف شو آخر جنونك قبل ما تسلمها للزلمة». ثم أخذ يتأمل لوحات فوتوغرافية بالأبيض والأسود، كل لوحة منها بمقدورها الحديث عن نفسها لصفحة كاملة في الجريدة من دون أن يكتب حولها حرف واحد. فقال ناجي «شي بيجنن يا عبد... أنا ما بقدر أخلي الكاميرا تحكي هيك ولا كمان الريشة، يخرب بيتك شو مبدع». مشينا معاً ناجي وأنا والمحيلان إلى مكتب محمد زين حيث كانت ممثلة عربية مشهورة تجلس معه في المكتب لإجراء حوار فني معها من قبل أحد المحررين، فسلّم عبدالله ومضى ناجي في طريقه إلى مكتبه، أما أنا فوقفت بالباب وكأني أمسي محمد زين بالخير وأطلت في تحية المساء، بينما كانت عيناي تحدقان بالممثلة لتقرأ تفاصيلها، الأمر الذي لفت نظر محمد زين فقال لي «يا بدوي الظاهر عمرك ما شفت بحياتك جمال؟» فقلت له «يا حسرة هل بصحراء الظمأ جمال؟!» فضحك محمد طويلاً وقال «هذه الفنانة فلانة الفلاني» فقلت «أهلاً وسهلاً» ولم أقل «تشرفنا!!» ثم سرت لا ألوي على شيء إلى أن اتخذت إحدى طاولات الزملاء، وبدأت أكتب مقالتي اليومية هذرلوجيا التي تأخرت عن موعد تسليمها تلك الليلة، مما حدا بالزميل الرائع عبداللطيف الأشمر أن يزعق فوق رأسي «خلصنا بدنا نقفل الصفحة شو... أحنا عبيد عند أبوك بدنا نروّح». آنذاك كتبت على أعلى الورقة هذرلوجيا وعلى أسفلها سليمان الفليح وسلمتها للأشمر بيضاء لا سوء فيها. فقال لي «ولِك شو هيّ؟!» فقلت له «هيّ لا شيء!! لأنني حقيقة ليس لدي اليوم موضوع أكتبه وهذا البياض أو الفراغ هو حقيقة جعبتي الليلة فلكي أكون صادقاً مع القراء أريد أن أطلعهم على الحقيقة كما هي لا أن أفبرك موضوعاً تافهاً من عندياتي، أليس هذا هو الصدق» فضحك الأشمر وحمل الورقة وقال «سأترك مساحة زاويتك على الجريدة بيضاء كما تقتضى الأمانة الصحفية حتى لو (فنشني) أحمد الجارالله» وقد صدق بذلك.