التحامل النافع
تبدو العلاقة بين المبدع والأخلاق محيرة أبداً، هل يمكن أن ينتج الكائن الرديء عملاً إبداعياً رفيعاً؟ أمْ أن معيار الإبداع يقتصرُ على جودة العمل ورداءته، كما يرى أوسكار وايلد وكثيرون؟ وما ردة الفعل، حين نكتشفُ في كاتب نُجلُّه إنساناً وضيعاً؟
التساؤل الأخير عادةً ما ينكشف، في المكان القلق بين نتاج المبدع وبين السيرة التي تُكتبُ عنه، ولأن كتابة السيرة أكثرُ فنون التأليف شيوعاً في الأدب الغربي، فإنّ فرصَ هذا التساؤل الأخير تبدو وفيرة. ثلاثة كتب مثيرة من فنّ السيرة، عن ثلاثة أعلام معاصرين، صدرتْ هذه الأيام، وعبر العروضِ الموسعة عنها تبينت هذه الطبيعة الفضائحية للتعارض بين موقف المبدع في كتبه، وموقفه في حياته. هناك ما ينتسبُ للتصرّف الرديء، وليد انعدام التوازن، عند كثير من المبدعين، وهو أمرٌ لا يرقى إلى مستوى الموقف الأخلاقي، ولكن أن يكونَ المبدعُ عنصرياً، أو منتهز فرص في الظرف المضطرب، أو محتالاً، أو رديئاً مع المرأة المسْتضعفة، أو كياناً نذلاً في هدف الكتابة والفعل... الخ، فأمر يجعلنا، نحن القراء، أرغبَ في إعادة النظر في نتاجه، لا في شخصه وحده. فصلٌ من كتاب سيصدر للناقد الموسيقي نورمان ليبرشت، عن قائد الأوركسترا الألماني الشهير كارَيان يعرّض هذا النجم لإضاءة النهار، ففي مطلع حياته الطموحة انتسب كاريان للحزب النازي (1933)، طمعاً في الموقع المركزي الذي يحتله قائد الأوركسترا الأشهر «فورتفانغلر»، ولقد حقق له حزب السلطة ذلك، فأصبح قائد فرقة برلين فيلهارمونك، مدى الحياة، وعلى مستوى الموقف فقد انتفع من السلطة النازية، كما يقول الكاتب، في أنه جعل للموسيقى الألمانية سلطة عالمية متفوقة، وعزز فكرة أن الموسيقى ليست إلا سلطة في النهاية. هذا إلى جانب ميل كارايان إلى التسلط في القيادة، وتوظيف مهارته الإدارية في توسيع سلطته على دور النشر الموسيقية، وبالتالي تحقيق ثروة تجاوزت الخمسمئة مليون دولار. الكتاب الثاني لا يقلُّ عنه إثارة وضعته كارول سيمور جونز عما سمته «العلاقة المتبادلة الخطيرة» بين سارتر وسيمون دي بوفوار، لأن كلاً منهما لعب دوراً رديئاً، أو مزدوجاً، في الموقف السياسي، والأخلاقي، فلقد ظل سارتر أمينا لانتسابه الشيوعي، حتى مع وحشيةِ الدولة الشمولية، لأنه يعتقد بضرورة «التعامل مع الدولة الشيوعية وفق أهدافها، لا وفق أفعالها»، كما أنه لم يُسهم في المقاومة ضد الاحتلال النازي في بلده، بالرغم من أنه أوهم الآخرين بذلك. لقد انتزع تصرفُ الاثنين تلك الهالة التي كللت علاقتهما الوجودية، كان سارتر شديد الميل للخيانة مع الفتيات اللواتي يفضلهن عذراوات. وسيمون، التي لم تكن تقل عنه، تحاول تحجيم حركته بتوفيرهن له، الأمر الذي ملأ حياتَهما بتراشق الاتهامات، ثم ان تبنيهما، كلاً على حدة، لم يكن صافياً تماما، كان سارتر يتجاوزُ دورَ الأب مع ابنته إلى دور العشيق، وسيمون تتجاوز دورَ الأم إلى دور عشيقة زوج الابنة. الأمرُ الذي أفلت الأبناء من قيد العلاقة الروحية إلى الغرق في مشاحنات الإرث. الكتابُ الثالثُ لا يقل فضائحية عن السابقيْن، كتبه بول تيروكس عن صديقه وأستاذه السابق، الروائي الشهير، والحائز على جائزة نوبل في. أس. نَيْبول. «أريد أن أكتب عن وحشية نيبول مع زوجته، وسطوته المجنونة على عشيقته، وعن قبضة التهديد التي تصحب صراخه، عن نوبة الكآبة، وادعائه التافه بأنه أعظم كاتب في اللغة الإنكليزية»، وأنه «الإنسان الجديد، كما كان مونتين إنساناً جديداً... الخ». يواصلُ كاتبُ هذه السيرةِ الفرنسية في إلقاء مزيد من الضوء على هوس نَيْبول بمعاشرة البغايا، على سلوكه المراوغ، على وضاعته، على قسوته التي ترتفعُ إلى مستوى الساديّة، على عنصريته واحتقاره للسود... الخ. جمعتْ المصادفة هذه الكتب الثلاثة أمامي، عبرَ عروض موزعة على أكثر من مجلة، جعلتني أتساءل عن عدد الكتّابِ، والفنانين الذين يمكن أن يُدرجوا في سلم الفضائح هذا؟ على أني قليل الحماس لقراءة هذا الضرب من تأليفِ السيَر، لو توافرت بين يدي، لأنها، كما أرى، لا تخلو من تحامل واستثارة، ولكنه تحاملٌ لا يخلو من فائدة، على كلِّ حال!