Ad

الاحتقان السياسي، وضيق مجرى العمل الحزبي الذي تعيشه الحالة العربية، أفرزا لنا ما يسمى بظاهرة «بدائل الأحزاب» ذات الأهداف المرحلية الواضحة والمحددة زمنياً. ويبقي السؤال عن فائدة الأحزاب للمواطن البسيط أساسا لمناقشة المبدأ.

الحديث عن الأحزاب والعمل الحزبي في المنطقة العربية يجرنا -رغم الخصوصيات النادرة- الى زوايا محددة، منها: طبيعة البيئة الثقافية والاجتماعية للعمل الحزبي العربي، التشكيلات الحزبية، وسلبيات العمل الحزبي، ولا تخلو هذه الزوايا من تعميمات وأحكام شمولية على أحزاب كثيرة العدد لكنها قليلة التأثير.

ولعل مسألة البحث في البيئة التي نمت فيها فكرة الاحزاب مهمة جدا في إطار التأصيل الفكري لما آل اليه الوضع بين مجتمعات غربية تطورت بفعل العمل الحزبي، وبين مجتمعات عربية ازدادت تأخراً بسبب عدم نضوج الظروف الاقتصادية والاجتماعية والسياسية لكي تحيا الحياة الحزبية فيها بشكل طبيعي. وفي ذلك نعرض احد التفسيرات المهمة (د. هالة مصطفى) حول ظروف نشأة الاحزاب العربية ضمن مكونات تقليدية وبدائية كالعائلة والقبيلة أو المذهب أو الطائٌفة، والضعف المؤسسي للدولة.

ترافق بروز الاحزاب في الدول الأوروبية والاميركية مع الثورة الصناعية التي افرزت نمط علاقات خاصة بين الافراد وقيما اجتماعية وسياسية ملتصقة بالدولة ومؤسساتها والتوافق على أن تكون ملجئها لتحقيق الإنصاف والعدالة.

ولعل القضايا الأكثر غياباً في المجتمعات العربية والأكثر حضوراً في المجتمعات الغربية كاعتماد أسس فصل السلطات، وتحديد دور الدين، والعلمنة في ادارة شؤون الدولة التي أصبحت الفيصل اليوم في قياس درجات التطور والتنمية للدول.

ويعكس الفراغ المدني اليوم في كل الدول العربية -وإن بنسب متفاوتة - واقع الحياة السياسية، وأصبح من نتائجه تطفل القبيلة والحزب الواحد والطائفة في الثروات العامة، وظهور هياكل تنظيمية حديثة تتغذى على التقليدية والأبوية.

ورغم صحة القول بأن طبيعة الانظمة السياسية السائدة واستبدادها وعدم جديتها في احداث التحولات المطلوبة فإنه يبقي ان فهم البيئة الاجتماعية وطبيعة العلاقات السائدة بين مكونات المجتمع العربي هي السبب الأول والاهم الى نكوص فكرة الاحزاب الى يومنا هذا، وتكلسها وعيشها على مراحل تاريخية سادت وبادت.

ومن ذلك، يمكن ان نتحدث عن السلبيات التي هي في نظر الكثيرين نتائج لما ذهبنا اليه في بداية المقال. وهي كذلك تفسيراً لها.

يؤرخ للعمل الحزبي في الاقطار العربية مطلع القرن العشرين وقد ساهمت الثورة الروسية عام 1917 في مد العديد من الدول كالصين ودول اوروبية وعربية وافريقية ولاتينية بمعين ظاهر حول الايديولوجيا والفكر ومتطلبات التنظيم والضبط السياسي من اجل استخدامه لرفض المستعمر ونيل الاستقلال وكان لهذه البذور أن لاقت تربة في كل من الجزائر ومصر وتونس والسودان والعراق واليمن الجنوبي وسورية.

وقد حققت الاحزاب التي ظهرت إبان فترة المستعمر واجب الاستقلال، الا انها فشلت بعد ذلك في ادارة واجب التنمية وتحول الامر الى اغتصاب للسلطة عبر استبدال صيغة الحزب بالجبهة القومية التي ستواجه «كل الاخطار» وبكل ما أوتيت من قوة، وحبذت من اجل ذلك كل وسائل ومقدرات الشعوب، فكان الاستبداد.

سمات العمل الحزبي

يعرف البعض الاحزاب لكونها تعبيراً عن القوى الاجتماعية والتيارات الفكرية والحركات السياسية الا ان هذه التعريف يغيب تماماً عن طبيعة وعمل الاحزاب التي تقبع في السلطة اليوم في الدول العربية. وقد أفرز الوضع الحالي الذي يتسم بضعف الديموقراطية العديد من الأمراض التي تعيشها البيئة السياسية العربية والتي تأتي الأحزاب كأحد مكوناتها.

وتشترك الاحزاب العربية اليوم سواء من كان منها في السلطة أو المعارضة بقواسم مشتركة كثيرة ومنها: القصور في آليات حسم الخلافات، محدودية التغيير في السياسة والوجوه، تسيد الزعامة والرئاسة، ضعف آليات المساءلة، وتقلص القواعد الجماهيرية، وجمود الادبيات الحزبية، غياب البرنامج السياسي الذي يبين كيفية الحكم، غياب التمثيل النسوي، عزوف الشباب عن الانخراط في التنظيمات الحزبية، طغيان التوجهات الدينية... هذه الامراض وربما غيرها أصبحت تقود المواطن في أي بلد عربي الى السؤال عن مدى الفائدة التي سيجنيها من وراء العمل الحزبي.

العمل الحزبي وتقسيماته

رغم أهمية الحديث العام عن الحالة السياسية ومن بينها العمل الحزبي في الدول العربية، فإن التطورات الحاصلة في العديد من البلدان (النشطة) ان صح القول تتطلب مراقبة ودراسة للحراك السياسي والجماهيري العفوي الذي أصبح يولد مجموعات ضاغطة حركت الشارع الراكد لسنوات، مثل (كفاية) في مصر، وانشقاقات حزبية، مثل كظهور حزب (الغد) منشقاً عن (الوفد) في مصر أيضاً. كما يحسب لحزب الاتحاد الاشتراكي للقوات الشعبية الذي يترأسه عبدالرحمن اليوسفي في المغرب قدرته على تشكيل حكومة عبر حصوله على عدد كبير من المقاعد في البرلمان (55 مقعداً) في انتخابات عام 1997. ولا يفوتنا هنا ذكر التطورات المهمة التي خلقتها كتل اسلامية في كل من الجزائر وفلسطين ومصر من سيطرة على عدد مهم من مقاعد البرلمانات، ومن ثم تشكيل حكومة كما حدث أخيراً في حالة «حماس - هنية» رئيس الوزراء الفلسطيني المقال.

واليوم يلاحظ أن هناك اختلاطا ونماذج بين قضايا عديدة حدثت وتحدث بفعل عوامل داخلية وخارجية، وأصبحت بعض الاحزاب المرخصة والحركات الاسلامية، وجماعات الضغط الليبرالية تلعب في هامش مهم من الساحة السياسية لبعض الدول العربية كالمغرب وتونس والجزائر واليمن ومصر والكويت ولبنان والاردن. وأصبح هذا الحراك يحسب له حساب من قبل الاحزاب الحاكمة التقليدية التي انفض الناس من حولها بسبب استبدادها وتحكمها في معظم خيوط ا للعبة بالقوة المفرطة أو بقوة القانون.

واليوم، يمكن تصنيف كل هذا الحراك ضمن جماعات ثلاثة رئيسية وهي: الحركات الدينية، والليبرالية، والجماعات الوطنية الضاغطة، في حين ذابت أو اندثرت الحركات القومية والشيوعية التي كانت تتسيد إبان الخمسينيات والستينيات في الساحة السياسية العربية. ويشار الى وجود أكثر من 190 حزباً مرخصاً في الوطن العربي بعد الزيادة التي طرأت على هذا العدد من جراء الانفراج السياسي نتيجة الاطاحة بصدام حسين في العراق.

ورغم ان المشهد السياسي العربي تعتريه الكثير من النقاط السوداء، فإن نمو مؤسسات المجتمع المدني وتأثرها بقضايا دولية كحقوق الانسان والمرأة والبيئة دفع بالمفاهيم الليبرالية الى أوساط كبيرة من الشباب في المجتمعات العربية.

الحركات التفاعلية

برزت في السنوات الأولى من تسعينيات القرن الماضي ما يمكن تسميته ببدائل الاحزاب أو التنظيمات التقليدية المؤطرة قانونياً، ونعني بها الحركات الجماهيرية التي يقف وراءها جيل شاب لا علاقة له بالإرث الحزبي السابق، وتتفرع هذه الحركات الى نوعين: اسلامية وليبرالية، وحدث «في مصر والكويت» ان تلاقت هذه الحركات الجماهيرية غير المنظمة معاً من اجل مطالبات محددة كإصلاح النظام الانتخابي وقد تجاوزت هذه الحركات الاطر الفكرية والايديولوجية التقليدية، وهي تتفاعل (تظهر وتختفي) بحسب الحدث والمطلب المرجو وقد سهلت التكنولوجيا الحديثة (الانترنت) مسألة الحشد والتواصل في ما بينها.

وقد برزت أمثلة اخرى كالتي ولدت في لبنان بعد مقتل الرئيس الحرير ي في تقليد يشبه التحرك البرتقالي الذي ولد في أوكرانيا. ولم تعدم سورية والاردن والمغرب وتونس واليمن من مثل هذه الظاهرة وان بنسب واشكال متفاوتة أخذت مرة شكل المظاهرة العامة أو المنتديات المعلنة أو النقد الكتابي مرات عدة.

وقد ساهمت الضغوط الاميركية والاوروبية على بعض الدول العربية في تشجيع مثل هذه الحركات وان بشكل غير مباشر، فقد ساهمت تلك الضغوط في المطالبة باجراء اصلاحات محدودة حول إشراك المرأة في التنمية واصلاح الانظمة الانتخابية كما ساهمت في خلق أجواء مواتية للتحرك بشكل جديد وبآليات فقد فيها الاحزاب، كأطر تقليدية، دورا كانت في السابق تحتكره بوضوح.