لقد آن للدول العربية أن تجرّم «التكفير» مثله مثل «القتل» والقضية من الخطورة بحيث لا يترك لآحاد المشايخ حق الانفراد بالتكفير، ولابد من تشريع ينظم هذا الأمر دفعاً للفوضى وحماية لكرامة الإنسان المسلم وسمعته وسمعة أسرته وأهله، كما لا يجوز بأي حال من الأحوال محاسبة الإنسان فيما يكتبه أو ينشره مادام لقوله وجه من وجوه التأويل.التكفير حكم عظيمٌ، لما يترتب عليه من آثار خطيرة تمتد من الشخص إلى زوجته وأولاده وأهله وقبيلته، فأين حكمة المشايخ وحسن تبصرهم في الأمور؟ لقد حذر الرسول -صلى الله عليه وسلم- من التفكير، وقال «أيما امرئ قال لأخيه، ياكافر، فقد باء بها أحدهما إن كان كما قال وإلا رجعت عليه». إن أعظم إثم يرتكبه مسلم ضد أخيه المسلم أن يكفّره وهو يعلم أنه يشهد الشهادتين ويؤدي الفروض الدينية لمجرد الشبهة والظن، أو عن طريق الاستنتاج من الأقوال والمقالات ونقولات المغرضين المتربصين، وإذا كان الإسلام أمرنا أن ندرأ الحدود بالشبهات، فالتكفير أولى أن يُدرأ بها، فما بال مشايخنا يسارعون في التكفير؟!
عندما كان خادم الحرمين الشريفين، ولياً للعهد، وبالتحديد في أوائل العام الميلادي «2003» اجتمع بعلماء الدين في السعودية، وطالبهم بالتروي في إصدار الأحكام والتزام العقلانية والتدقيق في كل ما يصدر من فوق المنابر، وعلى إثره، أصدرت «هيئة كبار العلماء» في السعودية فتوى جريئة ومشهورة، تدعو فيها إلى وقف تبادل الاتهام بالكفر، والتروي في تكفير الناس، وتحذّر مما يترتب على ذلك من انحرافات تؤدي إلى اغتيالات وتفجيرات وإزهاق أرواح وإتلاف أموال معصومة، فلماذا لم يمتثل الشيخ هذه الفتوى؟ ولماذا يخالف تعليمات ولي الأمر؟!
لقد أتت فتوى هيئة كبار العلماء في سياق فوضى التكفير الذي ساد المنطقة قبل عدة سنوات ولم ينج منه أحد، ابتداء بتكفير الفنانين مثل تكفير الفنان الكويتي المحبوب عبدالله الرويشد، وانتهاء بكتّاب ومفكّرين، بل لم يسلم منه حتى علماء دين مستنيرون من أمثال الشيخ محمد عبده والشيخ الغزالي.
نهر التكفير عريض وجارف وجذوره ممتدة في تاريخنا وتراثنا، وخير ممثل لهذا الفكر المدمر «الخوارج» الذين لم يتورعوا عن تكفير المجتمع الصحابي واستحلال دمه، وهم «السلف الصالح» للمكفرين الجدد الذين يحتكرون الحقيقة الدينية ويعطون أنفسهم حق تكفير الكتّاب والمفكّرين من دون حسيب أو رقيب وفي مأمن من المساءلة، هؤلاء لا يتورعون حتى عن التشكيك في عقائد جميع المسلمين، ما عداهم بحجة أن عقائدهم مزعزعة وعباداتهم مشوبة بالشرك، وحدهم أصحاب العقيدة الصحيحة! لقد سالت دماء كثيرة بسبب هذا التفكير الإقصائي، ونحن اليوم في عالم يعتمد أساليب الحوار والتفاهم بديلاً عن أساليب التشكيك والتكفير، ولكن مأساة الحياة العربية أن «المكفرين الجدد» مازالوا مهيمنين على منابر التوجيه يطلقون اتهاماتهم من دون محاسبة!! إنه من بؤس الحياة العربية أن مشايخ التكفير لهم حق التكفير ضد المفكرين في حين لا يملك هؤلاء أدنى حق في مقاضاة هؤلاء المشايخ لرد الاعتبار، تلك مفارقة عبثية في التشريعات العربية، فأنت تملك مقاضاة من سبّك وشتمك ولا تملك حقّ مقاضاة من كفّرك وهو أعظم وأخطر، لماذا؟! لأن المشايخ فوق الناس ويملكون الحصانة التي تمنع مقاضاتهم... ومنذ عدة سنوات منحت جامعة الإمام بالرياض الدكتوراه بامتياز لباحث سعودي كفّر فيها مئتي مثقف عربي هم رموز الحداثة والعقلانية والتنوير، وقال: إنهم كفرة يجوز قتلهم ولا يستطيع أي مثقف متّهم أن ينتصف لنفسه ويقاضي هذا المكفر!
تصور بؤس وعبثية ومفارقات الأوضاع في دنيا العرب، شخص واحد ناشئ يجرؤ على تفكير كل رموز الإصلاح العربي في رسالة دكتوراه علنية من دون أن يملك هؤلاء حق مقاضاته!!
ولو صدّقه غرٌّ جاهل وقام باغتيال أحدهم لأنهم مستباحو الدم فلا لوم على المحرّض والمكفّر واللوم على المضلّل. لقد آن للدول العربية أن تجرّم «التكفير» مثله مثل «القتل» والقضية من الخطورة بحيث لا يترك لآحاد المشايخ حق الانفراد بالتكفير، لابد من تشريع ينظم هذا الأمر دفعاً للفوضى وحماية لكرامة الإنسان المسلم وسمعته وسمعة أسرته وأهله، كما لا يجوز بأي حال من الأحوال محاسبة الإنسان فيما يكتبه أو ينشره مادام لقوله وجه من وجوه التأويل ولو من مئة وجه كما قال الإمام المصلح محمد عبده رحمه الله.
* كاتب قطري- بالاتفاق مع «الوطن» القطرية