في حلقة ذكر شيخنا الطيب...
يقولون رحلت؟
فنجزع نحن المذنبين بحسرة الانشغال وجريمة التقصير وداء التناسي... نحن الآثمين بالانجراف مع الساعات والأيام والسنين حد الغرق. يقولون رحلت... أنت الذي كنت أبا وأستاذا كريما... جئناك طلبة صغارا نبحث عن أحمد الربعي، عن ذلك القلم الجياش بمنطقه، والمبضع المداوي في سخريته، جئناك مجذوبين بسحر بيانك، وحداثة أفكارك، جئناك نبحث عن صورة لنا نراها فيك، ونرسمها من خلالك. وفي حلقة الذكر عندك، قرأنا الشعر فتسامينا وجدا مع ابن الفارض، وأجهشنا مع دنقل، ورحلنا مع الطيب الصالح إلي الشمال، وعدنا أدراجنا مجددا إلى حريق شمس أوطاننا. وفي حلقة الذكر عندك جلسنا نتلمس الفلسفة والمنطق، فعلمتنا أن نفتح عقولنا وأن نفكر بها، فلم تفرض علينا فكرا أو منهجا، وبرحابتك المعهودة تقبلت جهالة الصبا وفورة الغضب في نقاشنا. ودأبت تفتح كل الأبواب والشبابيك، وتترك الريح تعصف في المكان، ثم تقول: انظروا بأنفسكم ولأنفسكم، انظروا في دواخلكم، وتركتنا نكتشف الخرافة في تفكيرنا، والأسطورة في منطقنا، جمعتنا حولك تلاميذ وأصدقاء مختلفة مشاربهم، وسألتنا هل شهدتم؟ فتعلمنا معك أن نقبل الآخر، بعيوبة وذنوبه وسقطاته، أن نقبل الإنسان غير الكامل في هذا الواقع الحقيقي، ألا نبحث وراءه في كمال الفلسفات القديمة، وإنما في حلبة واقع الحياة المعاصرة، حيث لا يعيبنا ألا نكون كاملين إذا كنا بشرا خطّائين، ودفعتنا إلى اكتشاف لون هو لوننا دون سوانا، واستطلاع الآفاق من دون خوف، راسخين على منهجية المنطق الذي تعلمناه عندك. يقولون رحلت يا شيخنا الطيب... وأنت الذي آمنت بنا صغارا نضرب في العماء... فلا تذكر أحزاننا الصغيرة إلا أياديك البيضاء، وهي تشرع الأبواب وتدفعنا إلى الأمام، ولا تذكر مآقينا المثقلة سوى تشجعيك «إذا شكت الأقدام أشواك الطريق»، نذكرك وأنت تدفع عن طريقنا، تأخذ من وقتك المزدحم لتسعى وراء تحقيق أحلامنا الصغيرة، تشجع كل فكرة وكل محاولة. وتؤنبنا بلطف إن لم نستغل كل طاقاتنا. يقولون رحلت. وأتساءل هل حقا؟ يقولون رحلت فأرفع عيني لأنظر إلى وجهك، فلا أرى منك إلا طيبا. يا أبا قتيبة... آلمنا بعدك، واليوم يحزننا رحيلك... فعظّم الله أجورنا فيك.