هل تنتظر قضايا العالم عاماً كاملاً؟

نشر في 17-02-2008
آخر تحديث 17-02-2008 | 00:00
 د. محمد السيد سعيد

مشكلات أميركا السياسية والدستورية شيء وواقع أميركا في ظل إدارة بوش الابن شيء آخر تماماً. فالرجل معزول تماماً عن العالم ويعيش في كهوف أوهامه وخرافاته التي تنتمي إلى القرون الوسطى، وهو أسير العهد القديم لا يكاد يغادرة إلا ليقول كلاماً فارغاً.

تقول لنا الدراسات الأميركية إن الرئيس بوش أصبح مثل البطة العرجاء: أي لا يستطيع أن يتحرك لحل أي مشكلة كبيرة من مشاكل العالم.

فهل تنتظر مشاكل العالم عاماً كاملاً حتى يذهب هذا الرئيس أو ينتظر عامين حتى يألف الرئيس الجديد أو الرئيسة الجديدة الملفات الكبرى؟

عام أو عامان؟ من قال ذلك؟

ما تقوله لنا الدراسات الأميركية وهي تعتمد على دراسات تجريبية وإحصائية مستفيضة أن الرئيس الأميركي لا يمارس سلطات حقيقية إلا في الولاية الأولى، وهي أربع سنوات، وأن الولاية الثانية كلها تسودها نظرية «البطة العرجاء». وإذا نظرنا إلى الرئاسة الأميركية الحالية فسوف ندهش فعلاً لقلة ما قام به الرئيس من تغييرات أو قرارات محلية أو دولية ذات قيمة. الواقع أن الاتفاق مع كوريا الشمالية هو الشيء الوحيد الذي قام به خلال الولاية الثانية. وقد نضيف أيضا التغيرات التي لحقت بالاستراتيجية الأميركية في العراق... والقراران لا يرجع الفضل فيهما إلى الرئيس، بل إلى نخبة الحكم التي مثّلها تقرير «بيكر-هاملتون».

دعنا نزيد دهشة القارئ قليلاً ونترك الدراسات الأميركية ونذهب إلى العلوم السياسية عموماً. وهي تقول لنا إنه لو كان عند الرئيس أو الزعيم ما يضيفه، فهو يفعل ذلك خلال السنوات الأربع الأولى من حكمه. أما ما عدا ذلك فالرئيس أو الملك يكرر ما كان يفعله، بل يصير حبيساً لاعتقاداته السابقة ولتجاربة الأولى، خصوصاً لو كانت ناجحة. وكثيراً ما يقود القياس على تجارب ناجحة سابقة إلى هزائم وكوارث رهيبة بسبب تغير الظروف، بل إن الخصوم يستخدمون هذه الحالة ويعمدون إلى نصب شراك للرؤساء الذين يعيشون على ذكريات إنجازات قديمة أو انتصارات مبكرة وينتظرون منهم أن يتصرفوا بالطريقة نفسها فيقعون في الفخ.

وبوجه عام لا يضيف الرؤساء والملوك كثيراً بعد السنوات الأربع الأولى إلى رصيد بلادهم أو إلى رصيدهم الشخصي. هذا هو ما تثبته الدراسات الميدانية أيضا، ولو أنه لا يحتاج إلى الإثبات إلا بالمنطق. فلو أن لدى الرئيس أو الملك ما يضيفه فهو يفعل ذلك عندما يتولى السلطة أو على الأقل عندما يطمئن فيها، ولكن هذا كله شيء وحالة الرئيس الأميركي شيء آخر تماماً.

هنا نشهد رفضاً عاماً من الدراسات السياسية والدستورية الأميركية للنظام العجيب الذي يربك الرئاسة بل نظام الحكم كله، إذ تبدأ العملية الانتخابية قبل عامين من عقد الانتخابات فعلاً. وإن كان الرئيس القائم سيخوض انتخابات التجديد فسوف يستغرق عاماً ليفهم القضايا والملفات الصعبة ثم ينسى الأمر كله في العامين الأخيرين لأنه سيضطر إلى التصرف كمرشح، ولكن الأهم هو أن أميركا كلها تختطف وتصبح رهينة الانتخابات بما فيها من مزايدات وأكاذيب ومبالغات وألاعيب.

ومع ذلك كله، فمشكلات أميركا السياسية والدستورية شيء وواقع أميركا في ظل إدارة بوش الابن شيء آخر تماماً، فالرجل معزول تماماً عن العالم ويعيش في كهوف أوهامه وخرافاته التي تنتمي إلى القرون الوسطى، وهو أسير العهد القديم لا يكاد يغادرة إلا ليقول كلاماً فارغاً، وهو أضر بأميركا فعلاً أكثر مما أضر بها أي رئيس، بل أكثر مما أضرها أي خصوم.

الأمر أسوأ قليلاً حتى مما تقوله الدراسات الأميركية أو مما تقوله لنا العلوم السياسية، الواقع يقول لنا شيئاً مذهلاً آخر، وهو أن مؤسسة الحكم الأميركية كلها لم تعد تختلف عن بوش، بل إن بوش في الواقع ليس سوى نتيجة منطقية لما حدث لمؤسسة الحكم الأميركية، فهي صارت مؤسسة مغلقة عل ذاكرة مؤسسية جامدة، وتجتر قناعات بعيدة عن الواقع، خصوصاً عندما يتعلق الأمر بالسياسة الخارجية والمناطق التي لا تعلم عنها شيئاً مثل الشرق الأوسط أو الإسلام، وهي تنفر تماماً من النقاش الجاد حول أي موضوع، وهي مدفوعة بغرور القوة لتمارس البطش: العقوبات، وأحياناً الحروب، وفوق ذلك فهي لا تصحح نفسها إلا نادراً وبعد أن تكون «قد خربت مالطا»، كما يقال.

الحل: مبادرات عالمية

ويعني ذلك كله أن العالم لن ينتظر عاماً إضافياً لتنتهي الانتخابات وليكون هناك رئيس أو رئيسة جديدة يأخذ ملفات الدنيا كلها بجدية ويبدأ في وضع تصور لحلها والتفاوض برصانة لتسكينها. بل قد ينتظر فترة غير محددة. ونحن في الشرق الأوسط انتظرنا أكثر من ثلاثين عاماً منذ ادعى الرئيس السادات أن %90 من أوراق «اللعبة» بيد أميركا.

فالمشكلة، كما قلنا، ليست في الرئيس وحده، بل في نخبة الحكم الأميركية كلها، صحيح أن الرئيس هو الأقوى وأن الإدارات الجمهوية السابقة سلبت من الكونغرس كثيراً من سلطاته وأضعفته، ولكن في نهاية المطاف فالكونغرس- وهو القلب المحرك لمؤسسة الحكم الجبارة التي تشمل قوى غير رسمية أكثر مما تشمل قوى رسمية- يحسم «الذهنية» أو «الخطاب» أو «المنطق» الذي يستخدمه الرئيس في علاج مشاكل العالم أو التفاوض بشأنها حتى لو لم يكن ذلك منطقه المفضل. وهذا تحديداً ما يفسر حقيقة أن بعض الرؤساء الأميركيين يصبحون أكثر قرباً من العدالة بعد أن يتركوا البيت الأبيض، ولاسيما في ما يتعلق بإسرائيل.

ولكن السؤال الأهم هو: لماذا يجب على العالم أن ينتظر أصلاً خصوصاً إذا طال الانتظار أكثر بكثير مما ينبغي؟

الإجابة التقليدية هي أنه لا شيء يتم من دون موافقة أميركا، وتلك في الواقع إجابة خاطئة على مستويات متعددة؛ فأولاً، يقول المنطق إنه إن لم يكن هناك شيء يتم بحضور أميركا فلنحاول على الأقل في غيابها. وثانياً، أن فرص العدالة والمنطق صارت أكبر في غياب أميركا مقارنة بحضورها. ومن ناحية ثالثة، فقد يكون إنجاز الأشياء أو التفاوض لإنجازها هو الطريق الوحيد لإجبار أميركا على الخروج من عزلتها الذهنية أو من حالة «الشيزوفرينيا» التي تعيشها منذ نهاية الحرب العالمية الثانية على الأقل، بل الطريقة الوحيدة لإجبارها على اللحاق بالعالم.

وعلى سبيل المثال فأميركا دخلت طرفاً في بعض اتفاقيات حقوق الإنسان بعد أكثر من عقدين من إبرامها، واليوم تفكر أميركا لأول مرة في الدخول طرفاً في «بروتوكول كيوتو» الخاص بالبيئة بعد أن دخل حيز التنفيذ وصار الأمل الرئيسي لإنقاذ العالم من ظاهرة الاحتباس الحراري أو بالأحرى ظاهرة التخريب الصناعي للبيئة العالمية.

والواقع أن المبادرات الإقليمية والعالمية حتى في غياب أميركا قد تكون الطريقة الوحيدة لإجبار أميركا على التحرك بما يتوافق مع العدالة وإرادة العالم.

* نائب مدير مركز الدراسات السياسية والاستراتيجية بالأهرام

back to top