لطبيعة ساعات عملي أضطر لتناول الغداء في الكافتيريا التابع للجهة التي أعمل بها، وفي كل يوم يتكرر نفس المشهد. أقف أمام نفس أصناف الطعام، فأشير إلى طبق معين بابتسامة صفراء وبحاجب مرفوع سائلاً الأخ الآسيوي الذي يقف في الجانب الآخر: ما هذا؟ فيرد علي ببراءة مصطنعة وبنفس اللكنة الظريفة، ولكن بإجابة مختلفة في كل مرة. قبل يومين أجابني بأن الطبق: (هندي)، وأمس: (صيني)، واليوم: (مكسيكي). الطبق هو نفسه، وبنفس المكونات، لحم مع خضار في صلصة، إلا أني أصبحت أحرص على سؤاله عن اسم الطبق لأسمع الإجابة الجديدة، وصار يحرص هو على تلبية سؤالي بإجابة مختلفة في كل مرة.

Ad

يبدو أن الأخ الآسيوي، وبسبب كثرة المتفيهقين من أمثالي من الذين لا يحمدون ربهم على النعمة (وياكلون وهم ساكتين)، ويصرون على السؤال عن أصناف الطعام، صار يجيبنا بشيء مختلف في كل مرة. اليوم الطبق (مكسيكي) وقبله (صيني)، ومنذ أيام (هندي)، ولا أستبعد أن يقول غداً إنه (إيطالي) أو حتى (برتغالي)، وهكذا دواليك، فلا أسهل من الكلام ما دامت الطبخة واحدة!

تذكرت هذه الحكاية وأنا أشهد، والحمد لله على كل حال، استقالة الحكومة لمرة جديدة من بعد مرات كثيرة سبقتها، لدرجة أن من كثرتها صار يعجز المرء عن تذكر عددها على وجه اليقين.

في كل مرة كانت تستقيل فيها الحكومة يبرر الأمر بنفس الأسباب التي دارت كلها في فلك عدم تعاون البرلمان والانحراف والإصرار على التأزيم بالرغم من أيادي الحكومة الممدودة برغبة التعاون، ليعاد التشكيل، لنكتشف أن الطبق الجديد هو نفسه طبق الأمس، لحم مع خضار في صلصة!

نحن اليوم على أعتاب حكومة جديدة، فهل يمكن لنا أن نتصور بأن الطبق الجديد سيختلف عن الأطباق التي تناولناها سابقا؟ أم أن المسألة لن تختلف عن مداعبات أخينا الآسيوي، وسننتهي إلى تناول نفس اللحمة بالخضار والصلصة؟!

أتمنى لو كنت أستطيع القول إن الحكومة القادمة ستكون شيئاً مختلفاً، لكنني أجدني لا أملك سوى الانحناء تحت ضغط العلامات المتزاحمة التي تشير إلى أننا لن نفيق غداً على أي مفاجآت على المائدة!

الحكومة، وبالرغم من فشلها حتى في تقديم خطة عمل حقيقية، وكل عجزها عن إدارة شؤون البلاد، وتعثرها في معالجة كل الملفات العديدة التي حاولت الاقتراب منها، تأتي لتقول اليوم، ومن دون أن يرف لها جفن، إنها تقدمت باستقالتها احتجاجاً على عدم تعاون مجلس الأمة، ولأنها وجدت من النواب كل تجاوز وانحراف وخروج عن الحدود الدستورية، بالرغم من أياديها الممدودة!

لست في موقع تبرئة مجلس الأمة من سوء الممارسة والخلل بل لعلي سأكون من السعداء بحله، إن تم ذلك فعلاً وأظنه سيتم، لتجري انتخابات جديدة وفقاً للدوائر الخمس علها تأتينا بنواب أفضل، ولكن من حقي أن أتساءل كذلك عمّا كانت تحمله تلك الأيادي الحكومية التي يقولون إنها كانت ممدودة! ماذا كان فيها والحكومة قد عجزت حتى عن تنفيذ صرف مئة وعشرين ديناراً لمواطنيها في الموعد الذي ألزمت نفسها به سابقاً؟! عشرات الإدارات الحكومية وجيوش من آلاف الموظفين العاملين لديها، فتعجز عن تنفيذ أمر إداري مباشر كهذا في الفترة المحددة! ألا يكشف هذا عن ضعف حكومي مستحكم؟ فعن أي أياد ممدودة وقدرات لديهم يتحدثون؟! وماذا كان عندهم غير الوعود والأمنيات؟!

يقولون إن من أسباب فشل الحكومة الحالية كثرة التدخلات في عملها، وإن هناك أطرافاً من الأسرة وخارجها قد عملت بدأب على إفشالها وعلى عرقلة عمل رئيس الوزراء بالذات، ويشير الأكثر صراحة ممن كتبوا وتحدثوا في هذا الأمر إلى أن للشيخ أحمد الفهد يداً في الموضوع، وأقول إن كان هذا حقاً، فإن هذه الأطراف لم تجد أمامها سوى حكومة فاقدة للمناعة ضعيفة بمكوناتها، غير قادرة على الوقوف ناهيك عن المقاومة، ولم يكن الأمر يحتاج ممن يعملون ضدها سوى دفعة صغيرة لتنهار!

إن هزال الحكومة وضعفها المتأصل راجع في الأساس إلى آلية الاختيار والتشكيل القائمة على المحاصصة الخالية من أي معايير سوى حسابات اللعبة السياسية، والمستندة إلى التوزيع الفئوي والطائفي غير الناظر إلى مقاييس الكفاءة، وراجع كذلك إلى أن القرار الحكومي قرار مركزي، يهمش قدرات الوزراء، ويحيلهم إلى مجرد كبار موظفين بلا أدوات ولا سلطات حقيقية، وراجع كذلك إلى أن العمل الحكومي لا يقوم على رؤية بعيدة المدى ولا على خطة وأهداف واضحة، ولا على جدول زمني يضبط الأمور.

هذه هي الأمور الأساسية التي أدت إلى فشل هذه الحكومات المتتالية، وسيستمر الأمر كذلك مادامت باقية بلا تغيير، وسيبقى عمل الحكومة سائراً على البركة، ولولا الله الذي قد جعل سعر النفط في ارتفاع من دون تدخل منا، لعجزت حتى عن دفع رواتب موظفيها!

الكويت اليوم أمام منعطف مفصلي حاد جداً، فإما أن يدرك النظام أنه لا خروج لنا من هذه الحفرة العميقة جداً إلا بحركة تصحيحية جذرية لطريقة تشكيل الحكومة من القمة إلى السفح وبتحصينها من تدخلات أبناء الأسرة وغيرهم من النافذين، وأن يدرك أننا في حاجة إلى حكومة إنقاذ، وبحركة تصحيحية موازية على مستوى طريقة تشكيل السلطة التشريعية، وإلا ستبقى الكويت أسيرة في هذه الحفرة وسنبقى نتناول من نفس الطبق حكومة إثر حكومة، وبرلماناً من بعد برلمان!