Ad

يحتوي مخطوط «مختار الحكم ومحاسن الكلم» على منمنمات

وتصاوير بديعة تدل على شيء من الجمال الفني، الذي يعود بجذوره إلى تقاليد مدرسة التصوير العربية متأثرة بالترجمة عن الحركتين اليونانية والسريانية وغيرهما من لغات الشرق القديم.

في بداياته الأولى التقى الفكر الإسلامي بالفكر الديني المسيحي في دمشق وبالفلسفة اليونانية في بغداد، فقام نشاط جدلي بين المفكرين النصارى والمسلمين، وكانت هناك مسألتان دار حولهما النقاش أكثر من غيرهما وهما مسألة القدر ومسألة خلق القرآن.

ولكن تأثير هذا الجدل لم يكن منتجاً في تاريخ الفكر الإسلامي ذلك ان أهم حادث في تكوين الفكر الفلسفي الإسلامي كان بلا جدال لقاؤه بالفلسفة اليونانية في بغداد، ولا سيما على عهد الخليفة العباسي المأمون الذي احتضن حركة الترجمة من اليونانية والسريانية وغيرهما من لغات الشرق القديم، فمنذ عهد هذا الخليفة أخذ العرب يطلعون على تراث الفلسفة اليونانية وفق ما يقرر جورج قنواتي في «تراث الإسلام» فإن الفلسفة التي تلقاها العرب لم تكن هي فلسفة أفلاطون وأرسطو فحسب، بل كانت أيضاً تلك الفلسفة التي صيغت خلال عدة قرون على يد من واصلوا الإضافة إليها وشرحها.

فإلى جانب أفكار أفلاطون وأرسطو كانت هناك الفلسفة الرواقية والفيثاغورثية والأهم من ذلك كله الفلسفة الأفلاطونية المحدثة التي أنشأها أفلاطون وبروقلس.

وبعد استيعاب المسلمين فلسفة اليونان وبوصفها من صور الحكمة الفريدة التي أسهمت كل العقول الكبيرة في تكوينها أخذوا يتجاوزون حدود الترجمة إلى عرض هذه الأفكار الفلسفية على العقل النقدي الذي تشبع بروح الإسلام وأشرب أيضاً باتساع المدارك الفلسفية والعلمية من خلال الاحتكاك بمجتمعات الشرق وأفكارها ومن ثم أخذت أصناف من الكتب العربية في الظهور لتعرض رؤى نقدية وتعريفية للفلسفة اليونانية، ويبدو أن بعضها لاقى إقبالاً من رعاة العلم والعلماء في مختلف ديار الإسلام حتى ان نسخاً مزوقة بالتصاوير كانت تنتج بأمر منهم وتحت رعايتهم.

ومن أهم هذه الكتب التي لاقت رواجاً كبيراً في القرن الخامس الهجري (11م) ذلك الكتاب الذي ألَّفه المبشر وهو مؤلف عربي عاش أثناء حكم السلاجقة وأسماه «مختار الحكم ومحاسن الكلم» ولكن الرجل لم يحظ بشهرة كبيرة ليس فقط لافتقاد كتابه للأفكار الإبداعية الجديدة ولكن أيضاً لأن الفترة التي عاش فيها شهدت نشاطاً مكثفاً للعلماء الموسوعيين المسلمين من أمثال الرازي والبيروني وابن سينا.

ومهما يكن من أمر فإن مؤلف «المبشر» كان من الكتب الفلسفية القليلة التي وصلتنا منها نسخ مخطوطة مزوقة بالتصاوير، ولعل أهم تلك النسخ تلك المخطوطة المحفوظة بمتحف طوبقا بوسراي في اسطنبول، ورغم أنها لا تحمل تاريخ نسخها إلا أن صفحة العنوان بها قد زينت بكتابة مذهَّبة تشير إلى أنها قد كتبت لحساب أحد أمناء سر «الأتابك يلماي» وهو ما حملنا على الاعتقاد أنها ترجع إلى النصف الأول من القرن السابع الهجري (13م) وعزز من هذا الاعتقاد الطابع الفني لتصاوير المخطوطة التي أُنتجت على ما يبدو في إحدى المدن السورية.

وكما أسلفنا فكتاب «مختار الحكم ومحاسن الكلم» لم يترجم مباشرة عن اليونانية وإنما تم وضعه عن حياة وأقوال حكماء الإغريق من أمثال هوميروس وسولون وأرسطو وفيثاغورث وجالينوس وغيرهم، ويبدو أن «المبشر» كان على اطلاع جيد ومعرفة وثيقة بالكتب التي ترجمت عن اليونانية وأراد أن يعرض في مؤلفه هذا موجزاً شافياً لها في كتاب واحد لفائدة غير المتخصصين في علوم الفلسفة والكلام.

ومن الأسف أن بعض الصفحات التي كانت تضم تصاوير قد اختفت من بين دفتي المخطوط الذي آل إلى حوزة السلطان العثماني أحمد بن محمد (الثالث) في القرن الحادي عشر الهجري (17م).

ولكن ما تبقى من تصاوير هذا المخطوط يدلنا على أن تقاليد مدرسة التصوير العربية كانت هى الغالبة على الصور التي ألحقت بنص الكتاب من أجل توضيح بعض الموضوعات الواردة فيه.

وإن كانت هذه الحقيقة لا تنفي وجود بعض التأثيرات البيزنطية، ذلك ان المصور افتتح غرة الكتاب بصورة غرة مزدوجة في كل قسم منها صور لسبعة من الحكماء وضعت داخل سلسلة من المثمنات وأشكال رباعية الفصوص نتجت عن شكل هندسي يغطي كل الصفحة. وكان استخدام صور لسبعة من الحكماء وفي إطار هندسي أمراً شائعاً في المخطوطات البيزنطية.

والأمر نفسه نراه في خاتمة الكتاب المزدوجة والتي تضم صوراً لستة من الحكماء في كل صفحة أي أن عددهم الإجمالي هو ثلاثة عشر، وذلك يماثل ما كان يرسم من صور في بدايات المخطوطات البيزنطية، ولأن فاتحة المخطوطات الأخيرة كانت تأتي من جهة اليسار فإن المصور العربي قد استخدم الصور البيزنطية التقليدية ذاتها من الجهة نفسها ولكنها بالنسبة إلى الكتب العربية التي يبدأ تصفحها من اليمين تعتبر فاتحة الكتاب.

ومن أمثلة المنمنمات الرائعة في مخطوط «مختار الحكم ومحاسن الكلم» تلك التي تمثل سقراط وتلميذين من تلاميذه وهما يسألانه في مسألة يفكر فيها، وقد اختار المصور للحكيم سقراط هيئة شيخ كبير له لحية بيضاء وقد اعتمر عمامة عربية ذات طيات متعددة وجلس على ربوة في منظر خلوي فيه بعض رسومات لأوراق ووريدات تم رسمها بأحجام كبيرة وبطريقة اصطلاحية إلى حد بعيد.

وتبدو طيات ثوب سقراط أشبه بموجات المياه المتجمعة وهى الطريقة الأثيرة لدى مصوري المدرسة العربية عند تجسيدهم لطيات الملابس.

ونرى الزخارف الهندسية ذاتها وكلها مستمدة من الأشكال النجمية أيضاً في ملابس أحد الفلاسفة الإغريق وهو يتجادل مع أربعة آخرين في تصويرة ثانية من هذا المخطوط، ونلمح كذلك زخارف التوريق العربية (الأرابيسك) في ملابس أحد المواجهين لهذا الحكيم.

وقد عمد المصور إلى إضفاء أهمية خاصة على الفيلسوف الذي يكاد يحتل نصف مقدمة الصورة بمفرده وقد جلس تلك الجلسة الشرقية الشهيرة على سجادة حمراء ولها شكل بيضاوي، بينما جلس الآخرون جلسة القرفصاء إشارة إلى الترقب والتواضع في حضرة الحكيم.

ومن أجمل تصاوير مخطوط «مختار الحكم ومحاسن الكلم» تلك التي تظهر أحد الحكماء وهو يواجه مجموعة من الرجال يلقي عليهم أحد الدروس، ونجد الأستاذ يحدق في كتاب على صفحاته ما يشبه الكتابة اليونانية أو يستشير اسطرلابا في صورة أخرى أو يمسك بآلة في ثالثة وفي كل الأحوال نجده منهمكاً في نقاش مع تلاميذه.

والواقع أن الفنان الذي لم يشأ أن يترك لنا اسمه قد منح رسومه طابعاً خاصاً من الجمال الفني بفضل نجاحه في المزج بين طريقة تصوير الجلسات الجامدة بطبعها وبين الحيوية المتولدة من الحركة.