Ad

قد لا ينجح ساركوزي في مسعاه لإصلاح العلمانية الفرنسية، أقله ليس خلال ولايته هذه، فللعلمانية تلك قواها النافذة والمستقرة والممسكة بمقاليد الأمور، في الإدارة والتعليم وعلى صعيد المؤسسة الثقافية، في بلد يوصف، في كتابات عدد من الباحثين بأنه «ما بعد ديني»، لكن الأمر يبقى مع ذلك ذا دلالة.

قد تكون فرنسا بين أكثر بلدان أوروبا نزوعاً إلى المحافظة، وأجلى الأمارات على ذلك... ثوراتها المتكررة، منذ ثورة 1789، التي اعتُبرت قابلة العصر الحديث وإيذاناً بانبجاسه، حتى ثورة 1968، التي كانت وظلت طلابية في المقام الأول والأخير، فلم تكن تحركاً شعبياً ولا أفضت إلى قلب نظام الحكم، ولكنها أحدثت تغييراً على صعيد القيم والعلاقات الاجتماعية وتراتبها عميقاً بعيد الغور.

ليس القول بذلك، أي عزو الثورات أو كثرتها وتواترها في بلد من البلدان إلى اتسامه بالمحافظة تبلغ مبلغ الجمود، مفارقاً إلا في ظاهره، إذ ما الثورة إن لم تكن، ودون التنطع إلى الخوض في تعريفات لها وافية ضافية ليس هنا مجالها، مآلَ عجز عن الإصلاح، ومغبّةَ قصورٍ في إجرائه، حلاً جذرياً «يكتسب جذريته من تأخره» لتناقضٍ تفاقم واستفحل بين واقع تغير و«بنى» ناظمة له، على صعيد القيم والقوانين والمؤسسات ووسائل حيازة السلطة وقنوات تصريفها، ظلت على حالها فأصابها الجمود؟

ويبدو أن فرنسا على أعتاب ثورة من هذا القبيل، أو أنها قد انخرطت فيها، إذ لا يمكن لذلك الاجتراء على مراجعة ومساءلة أقنوم مؤسس للنظام الجمهوري الفرنسي، هو المتمثل في العلمانية، أو اللائكية كما يحلو للناطقين بلغة موليير تسميتها، إلا أن يكون فعلا ثورياً، طالما أنه يمس مبدأ أساسياً قامت عليه الدولة كما الاجتماع السياسي-الثقافي للبلاد وكان آية تمايز تجربتها بين الأمم. تجربة قوامها اتخاذ العلمانية عقيدة، ضرباً من ديانة مدنية، أي لا يُكتفى بها مقاربة إجرائية لضمان استقلال الحياة السياسية عن الدين.

اللافت في تلك المراجعة، الرامية في نهاية المطاف إلى وضع حد لفرادة العلمانية الفرنسية، أنها صدرت عن رأس السلطة، أي عن تلك المرتبة التي كان يُفترض فيها أن تكون ضمانة النظام الجمهوري، خصوصاً أن فرنسا هي البلد الغربي الديموقراطي الوحيد الذي يُنتخب فيه رئيس الجمهورية بالاقتراع العام والمباشر. إذ تعود المبادرة في هذا الصدد إلى الرئيس الجديد نيكولا ساركوزي، الذي عرض رؤاه المتعلقة بإصلاح العلمانية الفرنسية، في خطاب ألقاه في روما أمام البابا بيندكتوس السادس عشر، ثم في آخر ألقاه في الرياض في أثناء زيارته إلى المملكة السعودية، حيث أعلن تحفظه على الأنموذج العلماني الساري في بلده، مشيراً إلى أن الأنموذج ذاك قد «قطع فرنسا عن جذورها المسيحية، وما كان يجب أن يفعل»، وذاهباً، على ما فعل في الرياض، إلى أن «الله المتعالي في فكر وقلب كل إنسان»، وإلى أن (هناك شيئاً «جوهراً؟» دينياً في عمق كل حضارة).

كلام فاجأ، في فرنسا، وأثار ضجة، مع أنه ليس جديداً على لسان ساركوزي نفسه، الذي سبق أن أفصح عنه، بوضوح وبعض تفصيل، في كتاب ألّفه «صدر بتوقيعه على أي حال» منذ سنة 2004، عندما كان يعد العدة، مبكّرا، لخوض معركة الرئاسيات، فلم تأبه به الأوساط المدافعة عن العلمانية كثيراً، ربما لاعتقادها أن الأمر لم يكن يعدو السعي إلى استمالة بيئة محافظة بعينها، وعوداً تُقطع لا تبعات لها. أو أن الأمر عدّ تجلياً من تجليات انسحار ساركوزي، انسحاراً لا يمكنه أن ينال من مناعة الأنموذج الفرنسي، بالنظير الأميركي لهذا الأخير، وهذا لا يقوم على استبعاد الدين من الفضاء العام، فلا تعدو علمانيته أن تكون حؤولاً دون سيطرة «كنيسة» من الكنائس على مقدرات الدولة، مع الإقرار لها بدور فاعل، أساسي، إن لم يكن كمحدِّد سياسي بالمعنى المباشر، فهو كمحدد قيمي وأخلاقي وثقافي.

لم يُعرف عن الرئيس الفرنسي كبير ولع بالشؤون الفكرية وسجالاتها، لذلك فإن اعتراضاته على أنموذج العلمانية الفرنسية ليست من قبيل فلسفي، فالرجل سياسي براغماتي، توصل إلى استخلاصات بعينها من تجربته العملية، كوزير للداخلية على سبيل المثال، كان عليه، بصفته تلك وحسب الترتيب الساري في بلاده أن يتولى مسؤولية الأديان، وكان عليه كذلك أن يتصدى، على نحو بالغ التأزم أحياناً، لمشكلة الهجرة، ولاسيما مشكلة الفرنسيين من أصول مهاجرة، حيث وقف على قصور المثال الجمهوري الفرنسي عن الاضطلاع بوظيفته الإدماجية التقليدية، القائمة على استيعاب الوافدين «مواطنين» أفراداً، من دون أخذ خلفياتهم الثقافية والروحية، وانتماءاتهم الخصوصية، بعين الاعتبار.

قد لا ينجح ساركوزي في مسعاه لإصلاح العلمانية الفرنسية، أقله ليس خلال ولايته هذه، فللعلمانية تلك قواها النافذة والمستقرة والممسكة بمقاليد الأمور، في الإدارة والتعليم وعلى صعيد المؤسسة الثقافية، في بلد يوصف، في كتابات عدد من الباحثين بأنه «ما بعد ديني»، لكن الأمر يبقى مع ذلك ذا دلالة، مؤشراً على أن العلمانية الفرنسية، في صيغتها النضالية والتي ربما صح وصفها بالتطرف، قد أضحت محل تساؤل في عقر دارها، في البلد وفي النظام اللذين كانا يعتبران بمنزلة «كنيستـ»ها، وهي التي أقامت على موروث يعود إلى النظرة العلموية التي كانت سائدة في القرن التاسع عشر، وآلت من جراء ذلك إلى محافظة وجمود، حالت دونها والتنبه إلى الأزمة التي أضحت تتخبط فيها تلك النظرة العلموية، وحتمياتها الكبرى والمؤسِّسة.

لذلك، وسواء أفلحت فرنسا في تجاوز علمانيتها «الإيديولوجية» أو «النضالية» أو «الجهادية» نحو علمانية أكثر اعتدالاً وإجرائية كتلك المعمول بها في سائر الغرب أم لم تفلح فإن الأنموذج قد اهتزّ واعترته الريبة، وذلك ما لا يمكنه أن يكون عديم التبعات على علمانيين «تبسيطيين» بين ظهرانينا وفي بلداننا اتخذوا من ذلك الأنموذج الفرنسي مرجعاً راسخاً لا يُساءل، استلهاماً كسولاً يريح من عناء التساؤل حول «المقال» الذي يجب أن تتوخاه العلمانية في كل «مقام» عينيّ.

* كاتب تونسي