Ad

إن التطور الهائل في الفكر السياسي الأميركي جاء نتيجة إصرار الأميركيين على طي صفحة الماضي البغيض، والسير قدماً في تطبيق شعارات الديموقراطية والمساواة التي أخرجتها السياسات الأميركية الخاطئة على مر العقود عن خط سيرها الصحيح، لتصبح هذه الأمة الأميركية الفتية بحق زعيمة لما يسمى بـ«العالم الحر».

سواء وصل إلى البيت الأبيض أم لم يصل، فإن المعركة التي خاضها أوباما تعتبر في حقيقتها نقطة تحول مهمة في تاريخ الشعب الأميركي الحديث. فانتخابات الرئاسة، منذ أن كانت هناك رئاسة بعد الحرب الأهلية، تـُطرح فيها اليوم مفاهيم وشعارات لم تكن تخطر في بال الأميركيين وغير الأميركيين، منذ زمن ليس ببعيد. فالتحول الجذري الذي أفرزته معركة السباق إلى البيت الأبيض يشبه زلزالاً سياسياً وفكرياً واجتماعياً. فمن التمييز العنصري الحاقد في أربعينيات وخمسينيات القرن الماضي، ومنع ذوي اللون الأسود من دخول نوادي البيض، أو حتى مشاركتهم في وسيلة نقل واحدة، إلى ترشيح «أسود» إلى أكبر منصب في الولايات المتحدة، وملاقاة هذا الترشيح بترحيب أكثرية نسبية من البيض، هو بمنزلة وضع كلمة «النهاية» على قرون مضت من الاستعباد البشري والفكري والعقلي في أكبر مأساة إنسانية شهدها العالم القديم والحديث. والمهم هو ليس وصول أوباما إلى الرئاسة، بل الأهم أن فكرة المساواة التي نادى بها الآباء الأولون الذين أنشأوا أكبر دولة في العالم قد أصبحت حقيقة واقعة، ولا مجال لنكرانها أو محاربتها أو إجهاضها في مستقبل انتخابات الرئاسة الأولى لسنوات آتية.

إن هذا التطور الهائل في الفكر السياسي الأميركي، لم تفرضه الملايين من الدولارات التي صرفت على أجهزة الإعلام، ولا «التركيبات» السياسية بين عاصمة المال نيويورك، وعاصمة النفط دالاس، ولا مناورات أهل السياسة في تلك القرية الكبيرة التي تدعى واشنطن؛ إن هذا التطور جاء نتيجة إصرار الأميركيين على طي صفحة الماضي البغيض، والسير قدماً في تطبيق شعارات الديموقراطية والمساواة التي أخرجتها السياسات الأميركية الخاطئة على مر العقود عن خط سيرها الصحيح، لتصبح هذه الأمة الأميركية الفتية بحق وحقيق زعيمة لما يسمى بـ«العالم الحر».

انطلاقاً من ذلك، أدعو إلى رفع القبعة تحية واحتراماً وتشجيعاً لهذه الروح الجديدة التي بدأت تسري في الجسد الأميركي، وبصورة خاصة الروح الشبابية في الجيل الجديد التي فرضت هذا التغيير، وستفرض حتماً تصحيح كل المسارات الخاطئة في سياسة الإدارة الأميركية القادمة، وربما كل إدارة مستقبلية. كذلك تثبت خطأ ما ذهب إليه مؤسس الدولة الصينية ماوتسي تونغ، من أن رياح الشرق ستتغلب على رياح الغرب ولو بعد حين.

إن رمز هذا التغيير المنتظر هو باراك أوباما الذي اعتبرته الصحافة الأميركية غير الملتزمة نقطة الضوء الساطعة في آخر النفق الأميركي المظلم. إن مظهره الخارجي الناعم الأنيق يختلف عن جوهره الداخلي المقاتل والعنيد، المؤمن والصريح. وفي الخطاب الأول الذي أعلن فيه رغبته بالترشيح ظهرت بوادر جوهره الداخلي؛ فقد قال في احتفال افتتاح معركة الرئاسة الذي أقيم في واشنطن: أعرف أنني لم أقضِ الوقت الكافي هنا لأتعلم أساليب واشنطن السياسية، ولكنني في المقابل قضيت الوقت الكافي لأعرف أن هذه الأساليب يجب أن تتغير من جذورها. وفي اجتماع آخر في شيكاغو قال: هذه الحملة الانتخابية يجب ألا تتركز على صفاتي الشخصية، فأنا لا أمثل الشخصية المثالية والمتكاملة لتحقيق أحلامكم (مجلة فانيتي فير FANITY FAIR فبراير 2008). وكان بذلك يحاول الابتعاد عن نبش ذكريات الماضي المؤلمة حول العرق والجنس واللون التي اشتهرت بها أميركا ولاتزال. وبالرغم من ذلك، فإن الحملة تركزت على تلك المزايا الثلاث، وانتصار أوباما يعني مصالحة لا عودة عنها مع تاريخها الأسود في لأي انتخابات رئاسية قادمة (فانيتي فير).

وُلد أوباما من أم بيضاء من كنساس كان أبوها يعمل في تجارة الأثاث وفي بيع عقود التأمين. وقد نزح إلى هاواي، الولاية الخمسين وكانت الأم «آن دنهام» منذ نشأتها معجبة بشخصية وبخطب مارتن لوثركنغ، الزعيم الأسود الذي قاد نضال شعبه نحو المساواة مع البيض. كذلك، كانت معجبة بموسيقى «ماهاليا جاكسون»، وتعتبر المغني الأسود هاري بيلافونتي «الشاب الأكثر وسامة وأناقة في العالم». وفي عمر الـ18 تزوجت باراك أوباما الأب، وهو كيني الأصل ويعمل في مجال الاقتصاد ويعتبر أول طالب أفريقي الأصل يصل إلى جامعة هاواي. حدث ذلك في الستينيات حين كان زواج البيض من السود غير قانوني. لكن الزواج لم يدم أكثر من ثلاث سنوات حيث طلقت زوجها وكان ابنها أوباما الابن في الثانية من عمره. ثم تزوجت من رجل ينتمي إلى هاواي وسافرت إلى إندونيسيا لاستكمال دراسة الدكتوراه وقضت هناك مع ابنها البكر أربع سنوات، ثم أعادته إلى هاواي رغبة منها في أن يعيش ضمن بيئته. وكانت تتوسم في أن يصبح شخصية سياسية يؤدي دوراً في قضايا أمته الأميركية. وقضى أوباما طفولة قاسية في ظل جديه لأمه وكان بارزاً في دراسته الثانوية والجامعية، لكنه لم يكن نجماً من نجومها. أما أبوه فقد تزوج أربع مرات وأنجب 12 ولداً.

تلك محطات مختصرة في نشأة أوباما، وإن دلت على شيء فهي تدل على أن الطبع يتغلب دائماً على التطبّع، وأن ذكريات الطفولة تبقى مع الإنسان إلى نهايته. غير أن ما يهم شرقنا العربي في الساعي إلى البيت الأبيض هو معرفة رؤيته السياسية لأزماتنا وعلى رأسها الصراع العربي-الصهيوني. في هذا المجال نشرت «الصن» النيويوركية بتاريخ 25 فبراير الماضي محضر اجتماع أوباما مع مئة شخصية يهودية أميركية في «كليفلاند» بولاية «أوهايو». وفي ما يلي بعض الفقرات مما قاله أوباما:

- يشرفني أن أحصل على تأييد أصدقائي العديدين من المجتمع اليهودي. هذا التأييد الذي حصلت عليه في الأيام الأولى لدخولي المعترك السياسي في شيكاغو.

- نحن بحاجة إلى تغيير جذري في سياستنا الخارجية تسمح لنا بإنهاء الحرب في العراق بأسلوب مسؤول كي نتمكن من قيادة العالم ضد تهديدات الأعداء المشتركين في القرن الواحد والعشرين: الإرهاب وانتشار الأسلحة النووية، والمذابح الجماعية والفقر. وإن هؤلاء الأعداء كلهم يتمثلون في عمق التقاليد اليهودية. وكلنا مسؤولون عن إصلاح العالم بشكل نتوزع فيه المهمات. هذه الروح سأنقلها معي إلى البيت الأبيض لأعمل بوحيها.

- منذ سنتين سنحت لي الفرصة لزيارة إسرائيل. وقد تركت هذه الزيارة انطباعاً حسناً وراسخاً في ذهني. وأنا أتفهم منذ زمن بعيد معضلات إسرائيل. وسأحمل معي إلى البيت الأبيض التزاماً لا يتزعزع للحفاظ على أمن إسرائيل وعلى تقوية الروابط بينها وبين الولايات المتحدة. إن الشعب الإسرائيلي أظهر التزاماً قوياً وشجاعة تجاه نشر الديموقراطية يوماً بعد يوم، وسأعمل جاهداً لمساعدة إسرائيل في الوصول إلى السلام المنشود، مع معرفتي بأن الرئيس أولمرت انتخب لتحقيق هذا الهدف. وأنا سأقف جنباً إلى جنب مع إسرائيل لتقوية أمنها على أساس كونها دولة يهودية. كذلك سأعمل في إطار معرفتي التامة بأن لإسرائيل أعداء يسعون إلى تدميرها. وقد ثبت ذلك من خلال الصواريخ التي أطلقها «حزب الله» في العام 2006، كما أرى اليوم أن حماس و«القسّام» يسيران على نفس الدرب. إن التعاون الدفاعي بين الولايات المتحدة وإسرائيل أثبت فعاليته... إن الخطر القادم من إيران هو خطر حقيقي وهدفي كرئيس هو إزالة هذا الخطر.

- إنهاء الحرب في العراق هو الخطوة المهمة الأولى للوصول إلى هذا الهدف. ويجب ألا يُخطئ أحد أن إيران هي المستفيدة الوحيدة من استمرار حرب العراق. وكرئيس لن أترك أي خيار على الطاولة في سبيل مقاومة أطماع إيران.

كلام أوباما، وهو على الباب الخارجي للبيت الأبيض، دليل جديد على أن الإدارات الأميركية، جمهورية كانت أم ديمقراطية، لاتزال تنظر إلى العالم العربي من منظار المصلحة الإسرائيلية. لذلك لامجال لإظهار الحماس لهذا المرشح أو لذاك... فكلهم مع إسرائيل ومع شروط إسرائيل ولو أعطيناهم مجاناً آخر نقطة من نفطنا ومن... دمائنا.

* كاتب لبناني