Ad

لو أمعنا النظر بروية وتجرد ونزاهة، فسنجد أن الأبواب مفتوحة بين الإسلام والعلمانية في طورها الجزئي، الذي يقوم على معادلة مفادها أن «فصل الدين عن السلطة ضرورة، لكن فصله عن المجتمع جريمة». فعند هذا الحد يمكن للطرفين أن يتقابلا، وللطريقين أن يلتقيا على عدة أسس لا ينكرها إلا جاهل أو متنطع أو متعجل.

يتصور المتعجلون والمغرضون ومن يأخذون بظواهر الأمور أن الإسلام والعلمانية طريقان لا يلتقيان أبداً، لا في الفكر ولا في الواقع المعاش، ويروجون لمقولات نمطية جامدة عن تبادل الكراهية بين الاثنين، وعن صراع ظاهر وباطن بينهما، يعرضونه في صيغة «معادلة صفرية» فإما هذا أو ذاك، ولا جمع أو تقريب يضيّق الهوة في الفكر والممارسة بين ما هو «إسلامي» وما هو «علماني»، ولا همزات وصل بين الإسلام كدين خاتم شامل كامل، مفتوح على كل ما هو إنساني وعقلي وروحاني، والعلمانية كرؤية متناثرة، تتغير ملامحها من مكان إلى آخر، ومن زمان إلى آخر.

ومثل هذه التصورات تنطلق من فهم خاطئ لكثير من القيم العامة العميقة التي ينطوي عليها الإسلام، بقدر ما تُبنى على إدراك مزيف لمعنى العلمانية، يعطيها وزناً أكبر مما هي عليه، ويخلط جزءها بكلها، ويتوهم أنها نظرية متكاملة الأركان، مكتفية بذاتها، قادرة على الصمود والتحدي في كل وقت وكل مكان، أو أنها شريرة في كل الأحوال، وكل التطبيقات، وجميع الرؤى والتصورات.

ولو أمعنا النظر، بروية وتجرد ونزاهة، فسنجد أن الأبواب مفتوحة بين الإسلام والعلمانية في طورها الجزئي، الذي يقوم على معادلة مفادها أن «فصل الدين عن السلطة ضرورة، لكن فصله عن المجتمع جريمة». فعند هذا الحد يمكن للطرفين أن يتقابلا، وللطريقين أن يلتقيا، على عدة أسس لا ينكرها إلا جاهل أو متنطع أو متعجل، وكثير هم الذين يقتاتون على أي صراع وتقاتل مستمر ينشب بين المتدينين والعلمانيين.

وأول هذه الأسس أن الإسلام ليس ديناً روحانياً خالصاً، بل يزاوج بين المادة والروح في توازن وتعادلية جلية، والمادة منوط العلمانية، ومحور وضعيتها المنطقية التي لا تؤمن إلا بما هو محسوس وملموس، حتى لو كانت الأخيرة قاصرة عن تحقيق الامتلاء الروحي والإيمان بالغيب الذي يكمن في الإسلام والأديان عامة.

وثانيها أن الإسلام لا يعارض «دنيوية» العلمانية، لأنه لا يلغي الدنيا لحساب الآخرة، إذ يقول القرآن الكريم «وابتغ فيما آتاك الله الدار الآخرة، ولا تنس نصيبك من الدنيا»، ويطلب الرسول صلى الله عليه وسلم من المسلمين أن يجدوا ويعملوا إلى آخر لحظة في حياتهم «إذا قامت الساعة وفي يد أحدكم فسيلة فليغرسها»، ويقول «فضل العامل على العابد كفضلي على سائر الناس».

أما الأساس الثالث فهو أن الإسلام لا يعرف «الكهنوت» ولا يضفي أي قداسة على بشر مهما علت مكانته، ويجعل العلاقة بين الإنسان وربه مباشرة، لا وسطاء فيها ولا أوصياء عليها، وإذا كانت العلمانية قد قامت على محاربة هذه الوساطة، حين أساء رجال الكنيسة في أوروبا استخدام الدين لحساب السلطة الزمنية، فإن الإسلام من قبلها قد حاربها، وانتصر في «نصه» لهذا، وإن كانت الممارسة قد شابتها نقائص وعيوب من استغلال الإسلام لحساب الحكم، أو تحول بعض الفقهاء إلى سلطة فوق عقول الناس وأحوالهم ومصالحهم.

والأساس الرابع هو أن الإسلام جعل من «التفكير فريضة»، إذ إن أول كلمة في كتابه المؤسس «القرآن الكريم» هي اقرأ، المقرونة بـ«الذي علم بالقلم»، وبالتالي فهو لا يتعارض مع مطالبة العلمانية بإعمال العقل، وطلب العلم، لكنه يرفض المغالاة في الاعتماد عليه، بحيث يصبح لا سلطان إلا سلطانه، أو يصير إلهاً يُعبد من دون الله.

أما الأساس الخامس فهو إقرار الإسلام بأن الحكمة، القائمة على العقل والعلم والفهم وإدراك روح الإسلام ومقاصده وقيمه، جزء أصيل من أفكاره وتشريعاته، إذ يقول الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم «الحكمة ضالة المؤمن فأنى وجدها فهو أولى بها»، وهناك القول المأثور الإسلامي المشهور «اطلبوا العلم ولو في الصين».

عند هذا الحد نجد أن الإسلام يستوعب العلمانية الجزئية، أو الأطوار الدنيا من العلمانية، التي تنتمي إليها الأغلبية الكاسحة من العلمانيين العرب، بل لدى الإسلام بشموله وجلاله ما يجعله غنيّاً عن كثير من أطروحاتها ومراميها، ويعارض فقط العلمانية الشاملة التي تسعى إلى إقصاء الدين خارج الحياة قاطبة، والعلمانية الإلحادية التي تتوهم موت الإله أو نسيانه للعالم. لكن للأسف فإن الكثيرين من الكتاب والفقهاء الإسلاميين الجدد يخلطون الحابل بالنابل، ويتعاملون مع العلمانية على اختلاف درجاتها وألوانها باعتبارها شيئاً واحداً إلحادياً وكريهاً على الدوام.

* كاتب وباحث مصري