آخر وطن
لم يعد العقل كما كان قادرا على إنتاج الحكمة،
تفرغ العقل لإنتاج النوايا المفخخة بالشر، والليل، والزنازن المحكمة الإغلاق حتى لا يدخل بصيص نور، شحن العقل في أيامنا هذه كل طاقاته لاختراع طريقة ما لاغتيال الأصدقاء، والأحبة، وكلمات الصبح الأولى، ونوافير الضوء في المساء! يصحو العقل باكراً، ليفكر في وسيلة ما لإيصال رسالة ملغومة لعصفور يغني في السماء... لأن صوته نشاز!!! أو للثغة حلم... لأن لونه وردي!!! كان العقل في ما مضى منتجاً حقيقياً للشموس والأغاني الخضراء، وحقول السنابل، وكان مشاركاً فاعلاً في كتابة نوتة طيور «الدوري». ويحكى أنه أي العقل هو المخترع الأول للسؤال القائل: «كيف نجعل هذه الحياة، أكثر بهاءً والناس أكثر ألفة، والأرض أكثر خيرا، والحب مواطناً صالحاً للعيش فيها؟!! كانت مهمة العقل الأساسية هي اختراع الأسئلة المضيئة، والمليئة بالماء، والفراشات الملونة، والعشب. أما الآن... فقد انحرف العقل عن تلك المهمة النبيلة وأصبح معنياً بنفايات الورق، وصناعة السم بالعسل، واكتشاف أصدقاء المرحلة!!! العقل لم يعد قادراً على إنتاج الحكمة، فقد تصدى الجنون لهذه المهمة! أما القلب لم يعد أكثر من كتلة بلاستيكية تعمل بميكانيكية بلهاء، وتضخ مشاعر لا يبقى عطرها في الروح سوى لسويعات قليلة، ولا تنفح من الشعر سوى ما يتبخر سريعاً «كالسبيرتو»! القلب لم يعد مستودعا للأحاسيس التي تفيض وهجاً قزحياً يتشح بالدفء، أصبح مجرد صندوق لاحتواء مشاعرنا الرثة والقديمة التي لم نعد نستعملها، وننتظر أقرب فرصة للتصدق بها! لم يعد العشب ينمو حول حياض القلب، وأبراجه لم تعد صالحة لسكنى الحمام وعيون المها، وأغنيات الغرام. كل ما فينا يلهث، يلهث، يلهث، حتى أنهكنا التعب... والتوتر... ومحاولة ارتشاف السراب! «سومرست موم» فجأة وجد الحل: «سأعيش لوحدي في أعالي الجبال»!! ما ترانا نحن فاعلين؟! هذا إن كنا لا نزال قادرين على الفعل أصلاً..