يصدر خلال أيام «ديوان الشعر اللبناني المعاصر»، إعداد وتقديم الكاتب اللبناني حمزة عبود عن اللجنة الوطنية لليونسكو بالتعاون مع دار الفارابي، وهنا نص المقدّمة.يضمّ هذه الديوان مختارات لاكثر من ستين شاعراً يمثّلون مختلف الاتجاهات والتحولات التي عرفتها الحركة الشعرية في لبنان منذ منتصف القرن الماضي. وهي تحاول أن تقدّم صورة للمشهد الشعري (في هذه المرحلة) تتيح للقارئ ان يتبيّن الملامح الاساسية لهذه الحركة من جهة، وأن يلمّ بأبعاد عدد من التجارب الشعرية البارزة من جهة ثانية.
لذلك فإن عدد الصفحات والقصائد المختارة هنا من الشعراء لا يعبّر، في جميع الحالات، عن موقع الشاعر ومدى حضوره او تأثيره في الحركة الشعرية اللبنانية بقدر ما يحاول الكشف عن تجربة الشاعر والأبعاد التي اتخذتها هذه التجربة على أكثر من صعيد. إلا اننا لم نُهمل هذين العاملين (موقع الشاعر ومدى حضوره في الحركة الشعرية المعاصرة في لبنان) لدى توقفنا عند عدد من الشعراء الذين شكّلوا علامات بارزة في تطوّر هذه الحركة او وقفوا في طليعة الاتجاهات والحركات التجديدية التي عرفها الشعر اللبناني المعاصر.
وقد حاولت هذه المختارات، من جهة ثانية، أن تبيّن الروابط الضمنية والمباشرة بين هؤلاء الشعراء الذين تشكّلت ملامحهم في عدد من الصحف والمنتديات الثقافية والأدبية (سعيد عقل...) او على صفحات مجلة شعر (أدونيس، أنسي الحاج، شوقي ابي شقرا، يوسف الخال، خليل حاوي، فؤاد رفقه...) وبين الجيل الشعري الذي نشأ (وظهرت أعماله الاولى) في مطلع السبعينيات.
ولا بدّ من الإشارة هنا الى ان مفاهيم الحداثة الشعرية التي رافقت هذه التجارب سوف تأخذ إطارها النظري في حركة نقدية موازية، وسوف تعمل هذه الحركة على إرساء الملامح التحويلية التي عبّرت عنها التجارب الشعرية الحديثة. ونُشير هنا الى أثرين نقديين بارزين شكّلا جزءاً بارزاً من السياج (النقدي) المنيع للتجربتين الشعريتين الأكثر إثارةً للجدل في ذلك الوقت. نعني: قصيدة النثر والقصيدة الحرة (او الشعر الحر). أما هذان الأثران النقديان فهما «قضايا الشعر المعاصر» لنازك الملائكة و«البحث عن الجذور» لخالدة سعيد.
تجارب الصحافة الأدبية
لم تكن الحداثة الشعرية إذاً مفهوماً مجرداً ونهائياً بقدر ما هي متصلة بشعرية النص، أي بنسيجه الداخلي وتعبيراته الفنية.
وفي الانتقال الى الحركة الشعرية الحديثة في لبنان نتوقف عند التأثيرات المتعددة التي استشرفتها القصيدة، فهنا، وربما اكثر مما نجد في الحركات الشعرية العربية والعالمية، لم يعد الشعر «المُنجز» هو المرجع الاول للقصيدة الحديثة. بل ان اهمية هذه الحركة الشعرية تكمن اولاً في ان التجارب التي جسدتها الصحافة الأدبية والشعرية (حوار، الآداب، شعر، مواقف...) فتحت نافذة على ما يحدث من حولها: الحركات التجديدية التي شهدها لعالم في مختلف مجالات الفكر والأدب والفن في الستينيات، تطور الحركة الثقافية والأدبية في مصر، بدايات الحركة الشعرية الناهضة في العراق (نازك الملائكة، بدر شاكر السيّاب، البياتي)، أشكال الصراع بين القوالب القديمة ونزعات التحديث في عصر النهضة، الانفتاح على الحركة الشعرية الانكلوسكسونية في أميركا وانكلترا... وإن تطور الحركة الشعرية لن يقتصر على الاتجاهات المتنوعة لقصيدة النثر باعتبارها قصيدة الّلاشكل، بل سيتجلى بعمقٍ، في تجارب شعراء ما سمّي بـ «قصيدة التفعيلة» او «الشعر الحر».
وتحاول هذه المختارات ان تبين الملامح الاساسية لتجارب الشعراء الشبّان الذين ظهرت مجموعاتهم الاولى خلال العقدين الأخيرين- منذ السنوات الاخيرة للحرب الأهلية حتى يومنا.
وإذا كنا سنعتمد هنا (مع الشعراء الشبّان) المعايير نفسها التي اعتُمدت في النصوص المختارة للشعراء من مراحل مختلفة (منذ ما قبل منتصف القرن الماضي حتى ما عُرِف بجيل السبعينيات) فإننا نعترفُ ان النصوص المختارة هنا لا تقدّم «وصفاً» نهائياً لهذه التجارب. فهذه النصوص على الرغم مما تحفلُ به من انقلابات على اللغة السائدة لدة عدد من شعراء السبعينيات، ومن ملامح تجريبية منحتها حيوية خاصة فإن معظمها لا يزال قيد التشكّل...
ولعلّ أبرز ما يميز تجارب هؤلاء الشعراء هو ان القصيدة – معهم- لم تعد مشروعاً او «رؤية الى العالم» أو سواها من التعبيرات الإيديولوجية التي شاعت في تجارب شعرية غربية وعربية في مطلع الستينات، بل هي تعبير عن لحظة راهنة تتشكّل بارتباطها الوثيق والمباشر بالسلوك اليومي والأفكار الطارئة والتداعيات المباشرة للحوادث والمشاهد.
أكثر تعبيراً
من ناحية اخرى لا تخضعُ هذه المختارات لاعتبارات (او معايير) نقدية مُسبقة. إلا اننا نقدّم في الوقت نفسه مادة شعرية سوف تمكّن من قراءة الشاعر على نحو مستقل او في سياق الحركة الشعرية (باتجاهاتها المختلفة). ومن هنا فإن هذه المختارات سوف تحرص على اختيار النماذج الأكثر تعبيراً عن تجربة الشاعر فتثبت النصوص التي عُرف بها الشاعر في الاوساط النقدية والأدبية كما تلقي الضوء على النصوص المهملة التي يمكن ان تشكّل مستنداً اضافياً لقراءة تجربته الشعرية من مصادر متعددة.
وبالاضافة الى ذلك فإنّ هذه المختارات سوف تعكس، في تنوّعها وإنتمائها مراحل واتجاهات مختلفة، الملامح الأساسية للحركة الشعرية المعاصرة في لبنان. كما ستبيّن مدى تفاعل هذه الحركة مع الحركات التجديدية التي ظهرت في عدد من البلدان العربية منذ بدايات النهضة، ومع الاتجاهات الشعرية الحديثة التي أخذت في الظهور منذ مطلع الخمسينيات في أوروبا واميركا (الولايات المتحدة) وعمل على نقلها الى العربية عدد من الشعراء على صفحات «شعر» و«آداب» و«حوار».
لقد شهدت الحركة الشعرية اللبنانية تطوراً عميقاً شاملاً منذ بدايات عصر النهضة ولا سيما مع ظهور الاتجاهات الرمزية والرومانسية (جبران خليل جبران، خليل مطران، أمين نخلة، الياس أبو شبكة، صلاح لبكي، فوزي المعلوف، وإيليا ابو ماضي...).
ومنذ بداية ستينيات القرن الماضي اكتسبت الحوارات النقدية والنصّية (تفاعل النصوص وتباينها) على صفحات «شعر» و«آداب» أهمية كبيرة لما أرسته من مفاهيم حول تطوّر القصيدة سوف تتجلى في ترسيخ معالم القصيدة الحديثة أو ما عرف بقصيدة التفعيلة وظهور قصيدة النثر.
فحتى الخمسينيات (من القرن الماضي) كانت مسألة الأوزان الخليلية تشكّل معياراً بديهياً للشعر. وقد تمكّن عدد من الشعراء أن يخرق هذا التقليد الذي كان يشكّل أحد الثوابت البنيوية في القصيدة العربية، وذلك في ظلّ «الانفتاح» الذي شهدته الساحة الثقافية والأدبية في لبنان كامتداد لطبيعة النظام السائد في العلاقات الاقتصادية والاجتماعية والسياسية...
أما قصيدة النثر التي شكّل ظهورها على صفحات مجلة شعر نوعاً من المغامرة استفزّ عدداً من النقّاد والكتاب فأخذت تتلمّس ملامحها بثبات وتؤكد حضورها خلال فترة قصيرة على صفحات مجلة مواقف.
التعريف بالشعراء في هذه المختارات يكاد يتقصر، بالاضافة الى السيرة الذاتية، على المكوّنات الثقافية والفنية التي تعبّر عنها تجربة الشاعر والتي نثبتها هنا من مقالات نقدية تناولت هذه التجربة في مناسبات مختلفة. إلا أننا حاولنا في الوقت نفسه أن نقدّم هذه التجربة عبر القصائد المختارة التي حرصنا على أن تكون مصدراً أول يمكن من خلاله قراءة هذه التجربة والإحاطة بأبعادها. ولكننا على الرغم من ذلك لا يمكن القول ان هذه المختارات (كما المختارات الشعرية الاخرى) تستطيع إيجاز المرحلة الشعرية التي تتناولها، وأنها تقدم تجارب الشعراء بأبعادها الحقيقية والشاملة. فجلّ ما تحاوله هو أن تتوقف عند اللحظات الأكثر تعبيراً عن هذه المرحلة وأن تلمّ بأبرز التجارب الشعرية التي شكّلت بأبعادها وإيقاعاتها المتنوعة نسيجاً فريداً في الثقافة العربية.